ثمة الآن في المنطقة العربية ثلاثة نماذج للثورة على الحكم الديكتاتوري، تختلف الواحدة عن الأخرى في التفاصيل.. فالثورة التونسية المُؤسِّسة التي بدأت منتصف شهر دجنبر الماضي، انطلقت عندما أضرم شاب هو « محمد البوعزيزي » من بلدة « سيدي بوزيد » الهامشية النار في جسده، ليُحرق معه نظاما بكامله كان يجثم بموجبه الرئيس السابق زين العابدين بنعلي وزوجته ليلى الطرابلسي، على أفئدة عشرة ملايين تونسية وتونسي.. هؤلاء شيعوا الآن زمن الديكتاتورية الذي عمَّر في البلاد منذ الإستقلال عن فرنسا، ودخلوا مرحة التأسيس لشىء آخر، ما هو؟ ليكن ما يكون المهم أن العودة إلى « البورقيبية » أو « البنعلية » أصبح مستحيلا، والدليل أن الجماهير التي تحرس ثورتها أسقطت منذ ساعات حكومة « محمد الغنوشي » المؤقتة، لماذا؟ لأنها من بقايا العهد البائد.. يا سبحان الله كان الجميع في تونس، من أخمص المجتمع حتى أعلاه، منذ أقل من ثلاثة أشهر خلت « يتنفسون » نظام الديكتاتور « بنعلي » أصبح الآن ماضيا مأفونا لا يُقبل أي شىء يمت له بصلة. لقد اكتشف التونسيون ما جنته الديكتاتورية على ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، ويا هول ما اكتشفوه.
بعد أقل من شهر، على وضع الثورة التونسية أهم أوزارها ونعني به رحيل الديكتاتور « بنعلي » عن السلطة، وبالتحديد يوم 25 يناير انتفض المصريون بدورهم، وكنسوا ثاني طاغية في الأقطار العربية « حسني مُبارك ».. بدأ كل شىء بفضل عزيمة بضع مئات من الشباب المصري الذين استشعروا خناجر « الحكَرة » والمذلة والهوان أكثر من غيرهم، فتجمَّعوا في أكبر ميدان بالعاصمة القاهرة، ولم يُبارحوه، لتلتحق بهم جحافل الناس حتى أصبحوا زهاء ثمانية ملايين عبر المدن المصرية، وانتهى الأمر برحيل الطاغية مُبارك.
وها هو ذا الشعب الليبي يذيق ديكاتور « العزيزية » العقيد القذافي الأمرين، مصرا على كنسه من هرم السلطة التي تربع عليها دون شريك منذ 42 سنة.. ولحد الآن فإن الشعب الليبي يظل على قمة جبل التضحية بالأرواح في سبيل التخلص من طاعون الديكتاتورية، إذ إنهم بضعة آلاف سفك الطاغية المجنون دماءهم بلا رحمة و « سيَّق » بها شوارع المدن الليبية، دون أن يُدرك (متى كان المجنون بالحكم يعي ما يفعل؟) أنه بذلك يُحكِمُ الطوق من حول عُنقه، حيث لم يعد له من ملجأ، بعدما أحرق كامل أوراقه بالداخل والخارج، إلاَّ الموت منتحرا أو شنقا على أيدي الثوار الليبيين.
هي إذن ثلاثة نماذج ثورية في ظرف أقل من ثلاثة أشهر، وهو رقم قياسي عالمي، إذ لم يسبق أبدا أن هبَّت زوبعة ثورية بمثل هذه السرعة والحسم (الإطاحة برؤوس ثلاثة أنظمة ديكتاتورية في أقل من ثلاثة أشهر) فعلى سبيل المثال فإن الفرق الزمني بين الثورات الإنجليزية والأمريكية والفرنسية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، كان بالعقود والسنوات، على النحو التالي:
- الثورة الإنجليزية: بين 1641-1649
- الثورة الأمريكية: بين 1756-1763
- الثورة الفرنسية 1789
بطبيعة الحال إنه لا قياس مع وجود الفارق، فزمن هذه الثورات المذكورة لم تكن فيه لا قنوات تلفزية فضائية ولا انترنيت ولا هاتف تابث أو محمول.. إلخ، وبالتالي فإن المُقارنة لا تصلح سوى للتأكيد على أن « عدوى » التحرر حينما تستأثر بشعب ما، فإنها تنتشر إلى باقي الشعوب، ذات نفس الإيقاع الثقافي والتاريخي والسياسي، مهما طال الأمد بين ثورة وأخرى. وهو ما حصل فعلا خلال ثورات البلدان الغربية المومأ لها سابقا، وزكّاه ما حدث مؤخرا في الرقعة العربية الشاسعة.
إن زمن الثورة ديموقراطي وإن تأخر امتداده فذلك ليس سوى لمشاق السبل الوعرة التي يعبرها إلى القلوب والأذهان، لكنه يصل حتما حتى النهاية.
طيب لقد اندلعت الثورة « المُطَهّْرة » من رجس الديكتاتورية في ثلاثة أقطار عربية، وثمة بلدان أخرى مثل اليمن والبحرين والأردن .. موعودة بنفس المصير الأبيض، فماذا عن المغرب؟
كما سبق وأكدنا في كتابات سابقة، يستحيل أن يظل المغرب بمنأى عما وقع ويقع قريبا منه، وبالفعل تداعى شباب « 20 فبراير » إلى التظاهر في أكثر من مدينة مغربية، وادعت أجهزة المخزن « أن لا مشكلة لها مع التظاهر » لكن حدة مُواجهة المتظاهرين والوقت القياسي للحكم بعشر سنوات سجنا على المتهمين في أعمال تخريب، لا تعني سوى شيئا واحدا: نظام المخزن الملكي خائف، والخائف يضرب في أي اتجاه كالأعمى.
هل انتهى الأمر؟ بالتأكيد لا، سيأخد أمر التخلص من الخوف بعض الوقت، ذلك أن دهر حُكم المخزن الملكي « استوطن » الأفئدة ليس حبا كما يدعي المتملقون المُستفيدون (وهنا أفتح قوسا كبيرا لأقول أنني أتفق لأول مرة، وأرجو أن تكون الأخيرة مع سيف الاسلام القذافي، الذي قال لقناة العربية ليلة السبت الماضي، أن كبار الموظفين في نظام أبيه، الذين استقالوا من مناصبهم والتحقوا « معنويا » بالثوار ليسوا سوى جرذان تنط من السفينة عندما تتسرب إليها المياه).. لذا فإن نظاما يُجبر الناس خوفا أو تملقا على تقبيل يد كائن بشري والركوع له، بينما تنقل التلفزة مشاهد عبودية من هذا القبيل القروسطي لم يكن لها وجود حتى في فجر الإسلام و صدره، بل هي عادة فارسية لأباطرة فارس القُدامى انتهت منذ أمد طويل.. إن نظاما من هذا القبيل لا يُمكن أن يظل بمنأى عن الثورة عليه، إن سحب التحرر تتجمَّع في سمائه وحينما ستمطر ستفعل ذلك بقوة وقسوة، إذ « على قدر عزائم الديكتاتورية تكون عزائم التخلص منها » وبين الحالين شعرة خوف.
ليس من شك أن قرون الإستشعار عند النظام الملكي المخزني حول ما وقع ويقع، مشدودة الآن، أكثر من أي وقت مضى، فهو يُدرك أن الكرة الملتهبة توجد لأول مرة، وبكل زخم وحدة في معسكره، فإما أن « يُداعبها » بذكاء كما اللاعبين المهرة، فلا تستقر عليه فتحرقه، أو يرميها بغباء بعيدا، حتى حين، ثم تعود إليه أشد قوة وقسوة والتهابا وبالتالي محقا.
لحد الآن لا شىء ينبىء، من خلال ردود فعل النظام الملكي المخزني، أنه « استوعب » الدرس وتصرف بذكاء، بل إن الخوف الأعمى يُملي عليه ما يفعله، ولا غرابة في ذلك، بالنظر إلى « مرض » فقر المادة الرمادية « المعشش » في « تواركَة » حيث لم يتبث منذ زهاء أحد عشرة سنة، هي المدة التي قضاها محمد السادس في حكم المغرب، أنه ثمة قرار واحد ذكي في التعاطي مع أمور هادئة كما الصاخبة (راجعوا ريبيرطوار هذه القرارات منذ الإعلان ملكيا عن بيترول تالسينت حتى التلاعب بالخريطة السياسية والقبلية في الصحراء ومأساة/ملهاة مخيم « أكَديم إيزيكَ ») الله غالب كما نقول بيننا نحن المغاربة، وأضيف: إن فاقد الشىء لا يُعطيه.
لم يُشر الملك في خطابه بمناسبة تنصيب المجلس الأعلى الإقتصادي والإجتماعي (مجلس آخر بعد عشرات المجالس الفارغة على عروشها) بكلمة واحدة تفيد التعاطي الإيجابي مع تظاهرات 20 فبراير الإنذارية، بل فعل الأفدح حينما ألمح إلى أنها مجرد « غوغائية ».. متى كان الغوغاء يُطالبون بدستور جديد يا ابن الحسن الثاني؟
ثمة من بين االمُحيطين بالملك محمد السادس مَن « يجتهدون » لإقناعه بأنه ملك عظيم لم ولن يجود الزمان بمثله، وعليه أن يحتفظ بكل شىء بين يديه: السلطة المطلقة والمال والقضاء والإعلام… إلخ، وتسليم جزء منها للشعب معناه أنه سيفقد « هيبة » النظام الملكي المخزني، فتكون رحلة التدحرج السريعة لنهاية النظام المذكور.
طبعا إنهم المستفيدون من « لحس » مؤخرة المخزن، فمقابل « تنظيف » قذاراتها ينشبون أظافرهم في المال العام والسلطة والنفوذ.. ولن يهمهم غدا سوى الهرب بما غنمت أيديهم حيث لا يطالهم عقاب ولا مُساءلة.
في الواقع ليس سهلا ولا في متناول أي صاحب سلطة مطلقة سواء كان ملكا أو رئيسا أبديا وما شابه، أن يكون ابن « اللحظة » التاريخية، فذلك يتطلب كفاءات لا يمنحها التوريث البيولوجي أو قسوة التسلط وما شابه، وبالتالي لا يكون ثمة محيد عن نار الثورة « المُطهرة » وكأنما طبيعة التاريخ لا تقبل بغير الزلازل والبراكين لتصحح التشوهات والنتوءات المسيئة لوجه الخليقة.
مصطفى حيران
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق