السبت، 26 فبراير 2011

إحراق النخب

أحمد عصيد

ليس من عادتي أن أتعامل بالعواطف والإنفعالات مع الأحداث والوقائع السياسية، غير أنني لا أنكر هذه المرة انفعالي الشديد الذي بلغ حدّ الشعور بالغثيان، وأنا أستمع إلى تعليقات بعض ممثلي الأحزاب السياسية المغربية على مسيرة الشباب يوم 20 فبراير المنصرم...

فأن تقاطع هذه الأحزاب تظاهرة الشعب المغربي المطالب بالتغيير، هو أمر طبيعي بسبب موقع بعضها في الحكومة المسؤولة جزئيا عن الوضع الحالي، وهو أمر طبيعي بعد ما آلت إليه هذه الأحزاب من تردٍّ وتآكل وضعف مصداقية، وهي التي ظلت تعبث في المجال السياسي المغربي منذ 2007 بمجموع أصوات انتخابية لا يتعدّى 19 في المائة موزعة على أزيد من ثلاثين حزبا، كما أنه أمر طبيعي بالنظر إلى سلوكها السياسي الذي يطفو على السطح في أشكال التلاسن والهراش والصراعات الصبيانية والدسائس التي لم تعد تحسب حسابا حتى للمصالح العليا للبلاد، والتي لا تهمّ أحدا من أفراد الشعب المغربي، كالتي تقع بين حزب البام وحزب الإستقلال وحزب العدالة والتنمية، مما يدلّ على مدى الإفلاس الذي بلغته الساحة السياسية المغربية التي أفرغت من كلّ مدلول جدّي. وهو أيضا أمر طبيعي بالنظر إلى العلاقة التي أصبحت تربط الأحزاب السياسية بالسلطة العليا، والتي تتمثل في انتظار "إشارات الملك"، الذي يعطيها الضوء الأخضر للتحرك، فالأحزاب معذورة لأنها لم تتلق إشارات الملك للنزول إلى الشارع لكي تتقدم إليه بمطالب، وقد يعني ذلك ضمن ما يعنيه أن النظام ليس مستعدا بعد لسماع صوت الشعب من أجل التغيير، رغم كل الظروف الخطيرة التي يجتازها العالم في السياق الراهن.

كل هذا أمر طبيعي لا نجد صعوبة في فهمه، ولكن أن يقوم البعض بمحاولة تبرير عدم قدرته على النزول إلى الشارع بأقاويل هدفها النيل من الشباب الذي أخذ المبادرة بالدعوة إلى التظاهر، ومحاولة الحط من قيمة الفاعلين الجدد في الساحة وتشويه صورتهم، فهذا ينمّ عن تخلف كبير في الوعي السياسي وعن ضعف في الحس التاريخي، لأن ذلك يدلّ دلالة واضحة على أن القيادات العجوز لم تكتشف بعد أنها خارج السياق الراهن.

لقد أصبح واضحا إلى حد كبير شلل الأحزاب السياسية التي ربطت مصيرها بالنظام ورهنت مواقفها وسلوكها السياسي بإيقاعه، مما نزع عنها قوة المبادرة، وجعلها تمارس السخرة الإدارية بشكل مذلّ.

لكن هل هذه الأحزاب مسؤولة لوحدها على ما صارت إليه ؟ في الواقع إن النظام السياسي الملكي يتحمل قسطا كبيرا من المسؤولية في ما آل إليه أمرها، وهو الذي برع فيما نسميه "إحراق النخب" الحليفة له، ونزع المصداقية عنها بتوريطها في السلطة بدون أية صلاحيات فعلية، ووضع متاريس المخزن أمامها مما يجعلها تخرج خالية الوفاض من تجربة الحكم والتسيير، والمشكل الذي سيواجه بلدنا مستقبلا هو التالي: إذا تمّ إحراق جميع النخب الجيدة والمحترمة في البلاد في طاحونة هذه اللعبة، فمن الذي سيقوم بدور الوسيط المطلوب بين مطالب الشعب والنظام؟ ألن يجد النظام السياسي نفسه وجها لوجه مع الشارع المهتاج والصاخب؟ لماذا تستعمل السلطة الأحزاب السياسية كما نستعمل ممسحة الأحذية، وتلقي بها وتبحث عن غيرها في كل مرة، ألم يؤدّ ذلك إلى قتل الحياة السياسية المغربية التي أصبح ميؤوسا من حالها بشكل مثير للشفقة؟

إن مقدار الإرتباك الذي ظهر في سلوك الأحزاب السياسية وشبيباتها خلال نهاية الأسبوع المنصرم، تظهر بما لا يدع مجالا للشك عمق الصراع الذي يعتمل داخل هذه التنظيمات الهشة، بما يتنازعها من مطامح متضاربة، فباستثناء حزب الإستقلال، الذي لا يشغله إطلاقا مشكل المصداقية، لأنه يعوض عملية الإحراق التي يتعرض لها من طرف المخزن بتولية أبناء العشيرة في المناصب والعبث بالمال العام، ولسان حاله يقول القول السائر بالدارجة المغربية:"ما طالعاش ما طالعاش !"، باستثناء هذا الحزب فإن كل التنظيمات الأخرى تعاني على ما يبدو من أزمة ضمير، وهي ترى الشعب المغربي يتحرك دون أن تستطيع تمثيله بالفعل داخل دواليب الدولة بسبب الشلل الذي أصابها، والذي أوقعها في شرك اللعبة المخزنية التي تجعل الفاعل السياسي ينتظر "الإشارات" عوض أن يقوم بالمبادرة والفعل، فقد جعلت الملكية التقليدية جميع الأطراف السياسية في موقع "الهيئة الإستشارية"، التي عليها إبداء الرأي للملك عندما يطلب منها ذلك، وهو ما جعل السياسة في أعلى مستوياتها تبدو كملهاة سخيفة.

و من بين أفدح النتائج التي أدى إليها إحراق النخب بالمغرب ضمور الفكر السياسي المغربي، وتحويل العمل السياسي إلى حسابات تقنية صغيرة لا تتعدى العراك حول الكراسي والزعامات الباهتة، فالفاعل السياسي الوحيد الذي هو الملكية، يحتكر السياسة الكبرى لنفسه، و يترك فتات موائد الحكومة والبرلمان الشكلي لكل الأطراف الأخرى.

لقد كان أهم ما برز في تظاهرة 20 فبراير هو تحديد سقف المطالب الشعبية بوضوح ولأول مرة، يريد المغاربة حكومة حقيقية تنتخب لتحكم، و يريدون ملكية برلمانية تفسح المجال لعمل المؤسسات في إطار دولة القانون التي لا تخضع للمزاج الفردي، والتي ينظمها دستور ديمقراطي منسجم لا تفرغه التناقضات من محتواه، لم يطالب المتظاهرون في غالبيتهم العظمى بـ"إسقاط النظام"، طالبوا بـ"إسقاط الفساد" و"إسقاط المخزن"، أي بالتغيير في إطار استمرارية ملكية عصرية، وهو ما يعني أن فرصة الإصلاح الجذري ما زالت قائمة، ولكن لكي يصل المغاربة إلى هذا المبتغى لا بد من نخب جيدة وطبقة سياسية مسؤولة ونشيطة تتمتع بقدر من المصداقية، وهذا هو ما لا يتوفر عليه المغرب للأسف في الوقت الراهن بعد عقود من الإستبداد وثقافة العبودية داخل الأوساط الرسمية، فما العمل؟

تقول مسيرات 20 فبراير التي تحاول السلطات التغطية على مطالبها بإبراز بعض أحداث الشغب المعزولة، إنه لا بدّ من دستور جديد أولا يضمن المساواة والعدل لجميع المغاربة أيا كان لونهم أو أصلهم أو لغتهم أو دينهم، ولجميع جهات المغرب على أساس التوزيع المتوازن للثروة، ثم مزيد من الحريات للجميع لتمكين الكلّ من المشاركة السياسية التي هي حق مبدئي لكل واحد، إذ من المخجل أن تكون لدينا أحزاب محظورة، ثم على أساس ذلك تنظيم انتخابات لا توزع فيها الكعكة على النخب المحلية حليفة المخزن، والتي لم تستطع إرشاء أكثر من 19 في المائة من المصوّتين في مهزلة 2007، ينبغي ضخ دماء جديدة في الحياة السياسية المغربية عبر إحالة طبقة سياسية بكاملها على المعاش، وإفساح المجال أمام نخبة سياسية وثقافية شابة ونظيفة، وصرف النظر بصفة نهائية عن مخطط إحداث حزب للنظام في مواجهة المتطرفين الدينيين، فالذي عليه مواجهة التطرف الديني هو الشعب المغربي عندما تصبح الديمقراطية تربية وسلوكا ونمط وعي يومي.

وبشكل مواز لكل هذا، لا بد من دمقرطة التعليم عبر تطهيره من القيم المتناقضة حدّ الهذيان، وتحريره من رهانات السلطة التقليدية، وجعله في خدمة الإنتقال الفعلي نحو الديمقراطية، وفتح وسائل الإعلام على النقاش العمومي الحرّ والصادق. هذه هي الملامح العامة للمغرب الذي يحلم به متظاهرو يوم 20 فبراير المنصرم، والتي هي بلا شك مطالب سيزداد عدد الذين سيرفعون حناجرهم للمناداة بها، وسيتمسكون بها بقوة وعلى الدوام إلى أن تتحقق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق