عمرأشهبار/ريف ستار(طالب باحث،جامعة ابن طفيل ،القنيطرة)
مقدمة
إن محطة جيش التحرير بمنطقة الشمال لم تحظ بعد بالمكانة التي تستحقها ضمن تاريخنا الوطني، ولا يزال يعتريها الكثير من اللبس والغموض نظرا لقلة المادة المصدرية التي تناولت هذا الموضع الشائك، وأيضا التضارب في الآراء بين مختلف الباحثين والمهتمين بالموضوع، وضبابية الرؤية عند البعض الآخر.
ظهرت حركة جيش التحرير بمنطقة الشمال كامتداد موضوعي وعضوي لحركة المقاومة المسلحة التي تزعمها محمد بن عبد الكريم الخطابي بالريف وقبله محمد امزيان، وكنتيجة لعجز “الحركة الوطنية” السياسية الدفع بنضالات الشعب المغربي إلى الأمام، والتعايش البين بين رواد هذه الحركة والمستعمر الفرنسي والإسباني من أجل مصالحهم الشخصية على حساب مصلحة الوطن.
ما تمتاز به حركة جيش التحرير في منطقة الشمال أنها استطاعت مواجهة المستعمر وتضييق الخناق عليه وتحقيق منجزات وبطولات ستظل منقوشة في تاريخ المغرب المعاصر بالرغم من بساطة الوسائل والإمكانيات المعتمدة لأن عزيمة وإرادة الشعب في التحرر والاستقلال وإيمانه بعدالة القضية التي يناضل ويكافح من أجلها كانت هي الدوافع الأساسية لخوض غمار المعارك بتفاني وشجاعة.
انطلاقا من هذه المعطيات وأخرى، ارتأينا المساهمة من خلال بحثنا المتواضع هذا في الكشف عن بعض الملابسات المتعلقة بحركة جيش التحرير بالشمال إيمانا منا بأن إعادة الاعتبار لهذه الحركة التحريرية في التاريخ الرسمي المغربي هو المدخل الحقيقي نحو مصالحة المغرب مع ماضيه الأليم، إنه من الضروري التحلي بالإرادة والشجاعة للتصالح مع تاريخنا وكتابته بطريقة موضوعية وإعادة الاعتبار لرموزه التي صنعت التاريخ ولم تدخله.
وحتى يتم تناول الموضوع بنوع من الإحاطة الشاملة، ارتأيت تقيسمه إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول: تناولت فيه الظروف العامة المحيطة ببروز جيش التحرير في منطقة الشمال حيث تطرقت للوضعية السياسية والثقافية وأيضا للوضعية الاقتصادية والاجتماعية السائدة في المنطقة قبل اندلاع شرارة جيش التحرير.
أما الفصل الثاني فقد خصصته لنشأة وتطور جيش التحرير في منطقة الشمال من خلال الحديث عن ميلاد جيش التحرير وتطور هذه الحركة التحريرية وأهم المنجزات التي حققها في الشمال، أيضا تناولت مصير جيش التحرير.
الفصل الثالث: خصصته لشهادات وروايات شفوية حول جيش التحرير بمنطقة الشمال.
ملاحظة:أصل هذا الموضوع بحث لنيل الإجازة في التاريخ والحضارة من جامعة محمد الأول بوجدة،سنة 2007
الفصل الأول: الظروف العامة المحيطة ببروز جيش التحريرفي منطقة الشمال
إن الحديث عن بروز ونشأة جيش التحرير بمنطقة الشمال يستدعي منا الوقوف أولا عند مختلف الأوضاع السائدة في المنطقة خلال فترة نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، هذه الفترة التي تعتبر أهم الفترات الحاسمة في تاريخ المغرب المعاصر، ومن خلال استحضارنا وفهمنا لهذه الأوضاع سنتمكن من فهم واستيعاب الأسباب الحقيقية التي دفعت بأبناء المنطقة إلى حمل السلاح ومواجهة المستعمر الذي كان يسعى إلى خدمة مصالحه الاستعمارية عن طريق تدعيم سياساته على كل المستويات: السياسية، الثقافية ، الاقتصادية والاجتماعية. الأمر الذي كان له انعكاسات خطيرة على أوضاع السكان.
الوضعية السياسية والثقافية
تكشف لنا بوضوح الوضعية السياسية التي عرفها المغرب خلال الأربعيينات وبداية الخمسينات المسار الذي سارت فيه “الحركة الوطنية” التي كانت تمثل اتجاه العمل السياسي حيث أن هذه الحركة نحت في ممارستها منحى يتناقض وما تم تحديده كثوابت لا يمكن التنازل عنها، وفشلت في تجسيد طموحات وآمال المغاربة لا سيما بعد نهج “الحركة الوطنية” الإصلاحية لسياسة التوافقات الفاشلة، هذا في الوقت الذي صعد فيه المستعمر من عملياته القمعية ضد أبناء الشعب المغربي، ولذلك فإن هذا العنف الاستعماري الذي مارسته سلطات الاحتلال على الجماهير الشعبية وعلى قياداتها الوطنية في المدن والبوادي في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات هو الذي جعل الفئات الشعبية تدرك بحدسها وغرائزها أن تحررها لا يمكن أن يتم إلا بالعنف وبالعنف وحده[1]، أما “الحركة الوطنية” السياسية فقد كانت تسعى إلى التفاوض وترتيب الأمور مع المستعمر ورفضت
[1] – زكي امبارك، محمد الخامس وابن عبد الكريم الخطابي وإشكالية استقلال المغرب، منشورات فيديبرانت، الطبعة الأولى 2002، ص: 33.
—————————————————-
أسلوب العنف الذي اختارته الجماهير الشعبية لتحقيق الاستقلال الحقيقي، ويعتبر حزب الاستقلال أكبر الرافضين لأسلوب العنف والمواجهة حيث أن أفكار رجال هذا الحزب كانت تميل إلى السياسة أكثر منها إلى الحرب[1]، وذلك ما أكده علال الفاسي خلال مؤتمر صحفي بالقاهرة سنة 1951 بقوله: “إننا أعداء لأعمال العنف”[2] ومن ثم فحزب الاستقلال فضل التعاون مع المستعمر، وهذا ما نستشفه بوضوح من خلال تأسيسه لجانا تأديبية تهتم بمتابعة المناضلين الذين يشتبه في أن لهم نشاطات فدائية[3].
إن حزب الاستقلال كان حزبا أرستقراطيا تبنى فكرة النخبة ويسعى للوصول إلى الحكم عن طريق هذا الفكر، يقول علال الفاسي في كتابه النقد الذاتي : “إن الأرستقراطية الفكرية شيء ضروري لتوجيه الأمة”[4].
هذا التعايش السلمي بين “الحركة الوطنية” ـ خاصة حزب الاستقلال ـ والمستعمر يؤكده مصطفى أعراب بقوله: “جلس هؤلاء الاستقلاليون آنذاك إلى جانب من أصبح يطلق عليهم اسم الخونة بعد الاستقلال، ممن عينتهم الإقامة العامة بالإضافة إلى الصدر الأعظم والمندوبين والكل تحت رئاسة المقيم العام[5].
في مقابل هذا الموقف السلبي الذي اتخذته “الحركة الوطنية” من العمل المسلح نجد بطل التحرير محمد بن عبد الكريم الخطابي يساند عمليات المقاومة المسلحة واعتبر الكفاح المسلح هو السبيل الوحيد للحصول على الاستقلال وأن التجربة أكدت أن الأسلوب
[1] – محمد بن عمر بن علي العزوزي، جقائق عن تأسيس جيش اتحرير بقبيلة جزناية مع نبذة من تاريخ هذه القبيلة، الطبعة الأولى 2002، ص: 123.
[2] – محمد أمزيان، محمد بن عبد الكريم الخطابي آراء ومواقف 1926 – 1963، منشورات اختلاف، عدد 12، ط 1، 2002، ص: 17.
[3] – جون واتربوري، أمير المؤمنين: الملكية والنخبة السياسية المغربية، ترجمعة عبد الغني أبو العزم؛ عبد الأحد السبتي ؛ عبد اللطيف الفلق، الطبعة الثانية، 2004، ص: 95.
[4] – نقلا عن مصطفى العلوي، الأغلبية الصامتة، ص. 30، علال الفاسي، النقد الذاتي في أرستقراطية الفكر.
[5] - مصطفى العلوي، الأغلبية الصامتة، دار الكتاب، الدار البيضاء، ص: 31.
———————————————–
السياسي غير مفيد بالنسبة للاستعمار[1]، وقد كانت الأحزاب السياسية تعلل عدم مشاطرة الخطابي فكرة العمل المسلح بتغيير الواقع والظروف عما كانت عليه في العشرينات وهو امر لا يكاد يعدو تبريرا لرضا القيادات الحزبية بالأمر الواقع وعجزها عن مسايرة تطلعات الشعوب في نيل حريتها وانفصالها عن المستعمر[2].
أما الوضعية الثقافية التي كانت تعرفها البلاد قبل اندلاع شرارة جيش التحرير فيمكن أن نسجل أن المستعمر سعى إلى الإبقاء على الأوضاع المزرية خاصة الأمية التي كانت متفشية بشكل مهول في كل المناطق لاسيما البوادي حيث الاستفادة من التعليم كان مقتصرا فقط على الأعيان الذين سيشكلون النخبة التي ستعمل على خدمة مصالح المستعمر، ويعبر عن ذلك جون واتربوري بقوله: “قام الجنرال ليوطي بإنشاء مدارس لأبناء الأعيان الذين سيكونون فيما بعد النخبة المغربية (المتقدمة) وأهمل تعليم أغلبية السكان إهمالا كاملا[3].
وتجذر الإشارة كذلك إلى أن تواطؤ بعض الزوايا مع المستعمر ساهم بدوره في ظهور جيش التحرير، إذ اختار زعماء بعض الزوايا الانضمام إلى صف الغزاة مع كل ما تطلب ذلك لإقناع الأتباع بالخضوع لفرنسا وخلق شروط تفتيت وحدة المقاومة الرافضة للاستسلام[4]. ويدخل في هذا الإطار شيخ الزاوية الوزانية بمدينة وزان، وعن الدور السلبي الذي لعبه بعض شيوخ الزوايا في عرقلة حركة الكفاح المسلح يقول الزعيم الريفي
[1] – عثمان بناني، محمد بن عبد الكريم الخطابي ومسألة استقلال المغرب، مجلة أمل، عدد 8، 1996، عدد خاص، ص: 158.
[2] – محمد أمزيان، مرجع سابق، ص 158 – 159.
[3] – جون واتربوري، مرجع سابق، ص: 84.
[4] – المكي المالكي، ندوة المقاومة، الجهة الوسطى الشمالية، النشاط السياسي للدرقاويين، ص: 212- 213.
———————————————
محمد بن عبد الكلايم الخطابي: “إن هؤلاء الطرقيين لم يساهموا في الجهاد لأنهم كانوا يقولون إن الكفاح في سبيل الوطن لا يهمهم[1].
الوضعية الاقتصادية والاجتماعية
لقد كانت لطبيعة الوضعية الاقتصادية إلى جانب الوضعية السياسية والثقافية التي مر بها المغرب عموما ومنطقة الشمال خاصة خلال نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات من القرن المنصرم تأثير بارز في ظهور حركة المقاومة المسلحة وجيش التحرير.
من خصائص الوضعية الاقتصادية، الفقر المدقع والبؤس الشديد الناتج عن استغلال ونهب المستعمر لثروات وخيرات الشعب المغربي فقد تمكن الاستعمار من خيرات الوطن مستغلا اعتقاد الناس في قوته[2]، وهذا الاستغلال لخيرات الشعب تعكسه بوضوح تسمية “المغرب النافع” التي أطلقها ليوطي على مناطق معينة من بلادنا، وهذا دليل على خدعة وزيف “الرسالة الحضارية” التي رفعها المستعمر لشرعنة وتبرير جرائمه، ويذهب مصطفى أعراب إلى أن الإسبان في حقيقة الأمر لا يهمهم شيء سوى نهب ثروات المنطقة وتمسكهم بالشمال كان فقط بسبب مناجم الحديد في جبل إوكسان بالناظور[3].
كما عمل المستعمر على الاستيلاء على الأراضي الفلاحية ونزعها من ملاكيها من أجل تفويتها للمستوطنين الأجانب مما خلق تيار الهجرة من القرى إلى المدن وإلى الجزائر، وفيما يخص طبيعة الحرف والأنشطة الاقتصادية التي كان يمارسها أبناء قبائل الريف الشمالية خلال هذه المرحلة فلا بد من الإشارة إلى أن هذه المنطقة كلها تمثل جغرافيا سلاسل جبلية يقطنها في الغالب فلاحون بسطاء يتعاطون الرعي والزراعة
[1] – محمد خرشيش، ندوة المقاومة ، الحسيمة، تازة، تازنات، موقف الزوايا من حركة المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، ص: 168.
[2] – محمد أمزيان، مرجع سابق، ص: 168.
[3] – مصطفى أعراب، الريف بين القصر، جيش التحرير وحزب الاستقلال، ط 2، 2002، منشورات اختلاف 13، ص: 164.
——————————————
وبعض الحرف اليدوية والتجارة مع المدن الأخرى وأحيانا التعاطي للتهريب مع المنطقة الخليفية[1]، لكن المستعمر تمكن من محاصرة قبائل المنطقة وشدد الحراسة عليها لمنعها من ممارسة تجارتها البسيطة فصار نشاط التجار الصغار مهزوزا خاصة بعد إغلاق الأسواق الداخلية في وجوههم كما استحال على هؤلاء التجار تصريف منتوجاتهم في الأسواق الداخلية لارتفاع تكلفة النقل، أما الصناعة في منطقة الشمال فلا يمكن التحدث عنها اللهم الصناعة التقليدية وبعض الصناعات الخفيفة جدا كتعليب السمك مثلا[2]، وما زاد في استفحال تعقيدات الوضع الاقتصادي في منطقة الريف بالخصوص هو كون هذه المنطقة لم تكن منطقة فلاحية لأنها منطقة جبلية لا تتوفر على تقنيات السقي.
وإذا كانت هذه هي صورة الخصائص التي ميزت الوضعية الاقتصادية، فإنها قد ساهمت في ازدياد حقد وبعض أبناء الشمال للمستعمر ورفضهم المطلق لأي تصالح معه، بل أعلنوها حربا ضروسا على المستعمر والمتعاونين معه الذين أغرقهم بالامتيازات المختلفة.
أما على المستوى الاجتماعي فقد تأثرت منطقة الشمال بشكل كبير بالأنماط الجديدة التي أدخلها المستعمر على المنطقة إذ حدث تغير في بنية المجتمع بسبب الإجراءات التي اتخذها المستعمر، واستفادت الجالية الاوربية من هذه البنية التحتية اجتماعيا واقتصاديا[3].
وتجذر الإشارة إلى أنه بالرغم من تمكن المستعمر من هدم البنيات الاجتماعية وتحطيم بعض المؤسسات القديمة إلا أنه لم يستطع القضاء على الأفكار والعادات المتجذرة في المنطقة، وهذا ما ذهب إليه جون واتربوري بقوله: “على المستوى الاجتماعي حطم الفرنسيون المؤسسات القديمة إلا أنهم لم يستطيعوا أن يغيروا من أخلاق
[1] – محمد لخواجة، جريدة العالم الامازيغي، عدد 10، 16 نونبر 2001، ص: 4.
[2] – مصطفى أعراب، مرجع سابق، ص: 164.
[3] – جون واتربوري، مرجع سابق، ص: 85.
———————————————————-
وتقاليد المغاربة وهكذا فإن ما احدثته الحماية من بنية تحتية بقي في العمق كيانا خارجيا غريبا مفروضا على شعب محافظ[1].
كما شهدت منطقة الشمال نزوحا كبيرا من الأرياف نحو المدن بعد أن احتل المستعمر مجموعة من البوادي فأرغمت ساكنتها لفائدة المعمرين الأوربيين والمغاربة المتعاونين الذين أمدتهم السلطات الاستعمارية على مغادرة أراضيها وممتلكاتها الاستعمارية بالدعم المادي والمعنوي[2]، من اجل تركيز سياستها الاستيطانية.
علاوة على ما سبق، يمكن الإشارة إلى أن منطقة الشمال تعتبر من أكثر المناطق كثافة على المستوى السكاني، وفي ظل غياب أبسط الموارد والأنشطة الاقتصادية فقد تفشت البطالة بشكل مهول.
أمام هذا الوضع لم يتوان أبناء المنطقة العاطلين في مواجهة المستعمر وحمل السلاح، ويعبر عن ذلك فرانز فانون بقوله: “إن هؤلاء العاطلين المنبوذين يجدون بالعمل النضالي الحاسم طريقهم إلى الاندماج في مجموعة الأمة، إن هؤلاء الناس لكي يرد إليهم الاعتبار يسلكون لدخول المجتمع طريق القنبلة والمسدس[3].
[1] – نفسه، ص. 76.
[2] – زكي امبارك، مرجع سابق، ص: 140.
[3] – فرانز فانون، المعذبون في الأرض، ترجمة سامي الدروبي وجمال الاندلسي، دار القلم، بيروت، ط 1، يناير 1972، ص: 101.
———————————————–
- ترقبوا في الجزء الثاني العناصر التالية:ميلاد جيش التحرير في منطقة الشمال، محمد بن عبد الكريم الخطابي وجيش التحرير، تأسيس جيش التحرير ابن بيئته.
مقدمة
إن محطة جيش التحرير بمنطقة الشمال لم تحظ بعد بالمكانة التي تستحقها ضمن تاريخنا الوطني، ولا يزال يعتريها الكثير من اللبس والغموض نظرا لقلة المادة المصدرية التي تناولت هذا الموضع الشائك، وأيضا التضارب في الآراء بين مختلف الباحثين والمهتمين بالموضوع، وضبابية الرؤية عند البعض الآخر.
ظهرت حركة جيش التحرير بمنطقة الشمال كامتداد موضوعي وعضوي لحركة المقاومة المسلحة التي تزعمها محمد بن عبد الكريم الخطابي بالريف وقبله محمد امزيان، وكنتيجة لعجز “الحركة الوطنية” السياسية الدفع بنضالات الشعب المغربي إلى الأمام، والتعايش البين بين رواد هذه الحركة والمستعمر الفرنسي والإسباني من أجل مصالحهم الشخصية على حساب مصلحة الوطن.
ما تمتاز به حركة جيش التحرير في منطقة الشمال أنها استطاعت مواجهة المستعمر وتضييق الخناق عليه وتحقيق منجزات وبطولات ستظل منقوشة في تاريخ المغرب المعاصر بالرغم من بساطة الوسائل والإمكانيات المعتمدة لأن عزيمة وإرادة الشعب في التحرر والاستقلال وإيمانه بعدالة القضية التي يناضل ويكافح من أجلها كانت هي الدوافع الأساسية لخوض غمار المعارك بتفاني وشجاعة.
انطلاقا من هذه المعطيات وأخرى، ارتأينا المساهمة من خلال بحثنا المتواضع هذا في الكشف عن بعض الملابسات المتعلقة بحركة جيش التحرير بالشمال إيمانا منا بأن إعادة الاعتبار لهذه الحركة التحريرية في التاريخ الرسمي المغربي هو المدخل الحقيقي نحو مصالحة المغرب مع ماضيه الأليم، إنه من الضروري التحلي بالإرادة والشجاعة للتصالح مع تاريخنا وكتابته بطريقة موضوعية وإعادة الاعتبار لرموزه التي صنعت التاريخ ولم تدخله.
وحتى يتم تناول الموضوع بنوع من الإحاطة الشاملة، ارتأيت تقيسمه إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول: تناولت فيه الظروف العامة المحيطة ببروز جيش التحرير في منطقة الشمال حيث تطرقت للوضعية السياسية والثقافية وأيضا للوضعية الاقتصادية والاجتماعية السائدة في المنطقة قبل اندلاع شرارة جيش التحرير.
أما الفصل الثاني فقد خصصته لنشأة وتطور جيش التحرير في منطقة الشمال من خلال الحديث عن ميلاد جيش التحرير وتطور هذه الحركة التحريرية وأهم المنجزات التي حققها في الشمال، أيضا تناولت مصير جيش التحرير.
الفصل الثالث: خصصته لشهادات وروايات شفوية حول جيش التحرير بمنطقة الشمال.
ملاحظة:أصل هذا الموضوع بحث لنيل الإجازة في التاريخ والحضارة من جامعة محمد الأول بوجدة،سنة 2007
الفصل الأول: الظروف العامة المحيطة ببروز جيش التحريرفي منطقة الشمال
إن الحديث عن بروز ونشأة جيش التحرير بمنطقة الشمال يستدعي منا الوقوف أولا عند مختلف الأوضاع السائدة في المنطقة خلال فترة نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، هذه الفترة التي تعتبر أهم الفترات الحاسمة في تاريخ المغرب المعاصر، ومن خلال استحضارنا وفهمنا لهذه الأوضاع سنتمكن من فهم واستيعاب الأسباب الحقيقية التي دفعت بأبناء المنطقة إلى حمل السلاح ومواجهة المستعمر الذي كان يسعى إلى خدمة مصالحه الاستعمارية عن طريق تدعيم سياساته على كل المستويات: السياسية، الثقافية ، الاقتصادية والاجتماعية. الأمر الذي كان له انعكاسات خطيرة على أوضاع السكان.
الوضعية السياسية والثقافية
تكشف لنا بوضوح الوضعية السياسية التي عرفها المغرب خلال الأربعيينات وبداية الخمسينات المسار الذي سارت فيه “الحركة الوطنية” التي كانت تمثل اتجاه العمل السياسي حيث أن هذه الحركة نحت في ممارستها منحى يتناقض وما تم تحديده كثوابت لا يمكن التنازل عنها، وفشلت في تجسيد طموحات وآمال المغاربة لا سيما بعد نهج “الحركة الوطنية” الإصلاحية لسياسة التوافقات الفاشلة، هذا في الوقت الذي صعد فيه المستعمر من عملياته القمعية ضد أبناء الشعب المغربي، ولذلك فإن هذا العنف الاستعماري الذي مارسته سلطات الاحتلال على الجماهير الشعبية وعلى قياداتها الوطنية في المدن والبوادي في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات هو الذي جعل الفئات الشعبية تدرك بحدسها وغرائزها أن تحررها لا يمكن أن يتم إلا بالعنف وبالعنف وحده[1]، أما “الحركة الوطنية” السياسية فقد كانت تسعى إلى التفاوض وترتيب الأمور مع المستعمر ورفضت
[1] – زكي امبارك، محمد الخامس وابن عبد الكريم الخطابي وإشكالية استقلال المغرب، منشورات فيديبرانت، الطبعة الأولى 2002، ص: 33.
—————————————————-
أسلوب العنف الذي اختارته الجماهير الشعبية لتحقيق الاستقلال الحقيقي، ويعتبر حزب الاستقلال أكبر الرافضين لأسلوب العنف والمواجهة حيث أن أفكار رجال هذا الحزب كانت تميل إلى السياسة أكثر منها إلى الحرب[1]، وذلك ما أكده علال الفاسي خلال مؤتمر صحفي بالقاهرة سنة 1951 بقوله: “إننا أعداء لأعمال العنف”[2] ومن ثم فحزب الاستقلال فضل التعاون مع المستعمر، وهذا ما نستشفه بوضوح من خلال تأسيسه لجانا تأديبية تهتم بمتابعة المناضلين الذين يشتبه في أن لهم نشاطات فدائية[3].
إن حزب الاستقلال كان حزبا أرستقراطيا تبنى فكرة النخبة ويسعى للوصول إلى الحكم عن طريق هذا الفكر، يقول علال الفاسي في كتابه النقد الذاتي : “إن الأرستقراطية الفكرية شيء ضروري لتوجيه الأمة”[4].
هذا التعايش السلمي بين “الحركة الوطنية” ـ خاصة حزب الاستقلال ـ والمستعمر يؤكده مصطفى أعراب بقوله: “جلس هؤلاء الاستقلاليون آنذاك إلى جانب من أصبح يطلق عليهم اسم الخونة بعد الاستقلال، ممن عينتهم الإقامة العامة بالإضافة إلى الصدر الأعظم والمندوبين والكل تحت رئاسة المقيم العام[5].
في مقابل هذا الموقف السلبي الذي اتخذته “الحركة الوطنية” من العمل المسلح نجد بطل التحرير محمد بن عبد الكريم الخطابي يساند عمليات المقاومة المسلحة واعتبر الكفاح المسلح هو السبيل الوحيد للحصول على الاستقلال وأن التجربة أكدت أن الأسلوب
[1] – محمد بن عمر بن علي العزوزي، جقائق عن تأسيس جيش اتحرير بقبيلة جزناية مع نبذة من تاريخ هذه القبيلة، الطبعة الأولى 2002، ص: 123.
[2] – محمد أمزيان، محمد بن عبد الكريم الخطابي آراء ومواقف 1926 – 1963، منشورات اختلاف، عدد 12، ط 1، 2002، ص: 17.
[3] – جون واتربوري، أمير المؤمنين: الملكية والنخبة السياسية المغربية، ترجمعة عبد الغني أبو العزم؛ عبد الأحد السبتي ؛ عبد اللطيف الفلق، الطبعة الثانية، 2004، ص: 95.
[4] – نقلا عن مصطفى العلوي، الأغلبية الصامتة، ص. 30، علال الفاسي، النقد الذاتي في أرستقراطية الفكر.
[5] - مصطفى العلوي، الأغلبية الصامتة، دار الكتاب، الدار البيضاء، ص: 31.
———————————————–
السياسي غير مفيد بالنسبة للاستعمار[1]، وقد كانت الأحزاب السياسية تعلل عدم مشاطرة الخطابي فكرة العمل المسلح بتغيير الواقع والظروف عما كانت عليه في العشرينات وهو امر لا يكاد يعدو تبريرا لرضا القيادات الحزبية بالأمر الواقع وعجزها عن مسايرة تطلعات الشعوب في نيل حريتها وانفصالها عن المستعمر[2].
أما الوضعية الثقافية التي كانت تعرفها البلاد قبل اندلاع شرارة جيش التحرير فيمكن أن نسجل أن المستعمر سعى إلى الإبقاء على الأوضاع المزرية خاصة الأمية التي كانت متفشية بشكل مهول في كل المناطق لاسيما البوادي حيث الاستفادة من التعليم كان مقتصرا فقط على الأعيان الذين سيشكلون النخبة التي ستعمل على خدمة مصالح المستعمر، ويعبر عن ذلك جون واتربوري بقوله: “قام الجنرال ليوطي بإنشاء مدارس لأبناء الأعيان الذين سيكونون فيما بعد النخبة المغربية (المتقدمة) وأهمل تعليم أغلبية السكان إهمالا كاملا[3].
وتجذر الإشارة كذلك إلى أن تواطؤ بعض الزوايا مع المستعمر ساهم بدوره في ظهور جيش التحرير، إذ اختار زعماء بعض الزوايا الانضمام إلى صف الغزاة مع كل ما تطلب ذلك لإقناع الأتباع بالخضوع لفرنسا وخلق شروط تفتيت وحدة المقاومة الرافضة للاستسلام[4]. ويدخل في هذا الإطار شيخ الزاوية الوزانية بمدينة وزان، وعن الدور السلبي الذي لعبه بعض شيوخ الزوايا في عرقلة حركة الكفاح المسلح يقول الزعيم الريفي
[1] – عثمان بناني، محمد بن عبد الكريم الخطابي ومسألة استقلال المغرب، مجلة أمل، عدد 8، 1996، عدد خاص، ص: 158.
[2] – محمد أمزيان، مرجع سابق، ص 158 – 159.
[3] – جون واتربوري، مرجع سابق، ص: 84.
[4] – المكي المالكي، ندوة المقاومة، الجهة الوسطى الشمالية، النشاط السياسي للدرقاويين، ص: 212- 213.
———————————————
محمد بن عبد الكلايم الخطابي: “إن هؤلاء الطرقيين لم يساهموا في الجهاد لأنهم كانوا يقولون إن الكفاح في سبيل الوطن لا يهمهم[1].
الوضعية الاقتصادية والاجتماعية
لقد كانت لطبيعة الوضعية الاقتصادية إلى جانب الوضعية السياسية والثقافية التي مر بها المغرب عموما ومنطقة الشمال خاصة خلال نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات من القرن المنصرم تأثير بارز في ظهور حركة المقاومة المسلحة وجيش التحرير.
من خصائص الوضعية الاقتصادية، الفقر المدقع والبؤس الشديد الناتج عن استغلال ونهب المستعمر لثروات وخيرات الشعب المغربي فقد تمكن الاستعمار من خيرات الوطن مستغلا اعتقاد الناس في قوته[2]، وهذا الاستغلال لخيرات الشعب تعكسه بوضوح تسمية “المغرب النافع” التي أطلقها ليوطي على مناطق معينة من بلادنا، وهذا دليل على خدعة وزيف “الرسالة الحضارية” التي رفعها المستعمر لشرعنة وتبرير جرائمه، ويذهب مصطفى أعراب إلى أن الإسبان في حقيقة الأمر لا يهمهم شيء سوى نهب ثروات المنطقة وتمسكهم بالشمال كان فقط بسبب مناجم الحديد في جبل إوكسان بالناظور[3].
كما عمل المستعمر على الاستيلاء على الأراضي الفلاحية ونزعها من ملاكيها من أجل تفويتها للمستوطنين الأجانب مما خلق تيار الهجرة من القرى إلى المدن وإلى الجزائر، وفيما يخص طبيعة الحرف والأنشطة الاقتصادية التي كان يمارسها أبناء قبائل الريف الشمالية خلال هذه المرحلة فلا بد من الإشارة إلى أن هذه المنطقة كلها تمثل جغرافيا سلاسل جبلية يقطنها في الغالب فلاحون بسطاء يتعاطون الرعي والزراعة
[1] – محمد خرشيش، ندوة المقاومة ، الحسيمة، تازة، تازنات، موقف الزوايا من حركة المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، ص: 168.
[2] – محمد أمزيان، مرجع سابق، ص: 168.
[3] – مصطفى أعراب، الريف بين القصر، جيش التحرير وحزب الاستقلال، ط 2، 2002، منشورات اختلاف 13، ص: 164.
——————————————
وبعض الحرف اليدوية والتجارة مع المدن الأخرى وأحيانا التعاطي للتهريب مع المنطقة الخليفية[1]، لكن المستعمر تمكن من محاصرة قبائل المنطقة وشدد الحراسة عليها لمنعها من ممارسة تجارتها البسيطة فصار نشاط التجار الصغار مهزوزا خاصة بعد إغلاق الأسواق الداخلية في وجوههم كما استحال على هؤلاء التجار تصريف منتوجاتهم في الأسواق الداخلية لارتفاع تكلفة النقل، أما الصناعة في منطقة الشمال فلا يمكن التحدث عنها اللهم الصناعة التقليدية وبعض الصناعات الخفيفة جدا كتعليب السمك مثلا[2]، وما زاد في استفحال تعقيدات الوضع الاقتصادي في منطقة الريف بالخصوص هو كون هذه المنطقة لم تكن منطقة فلاحية لأنها منطقة جبلية لا تتوفر على تقنيات السقي.
وإذا كانت هذه هي صورة الخصائص التي ميزت الوضعية الاقتصادية، فإنها قد ساهمت في ازدياد حقد وبعض أبناء الشمال للمستعمر ورفضهم المطلق لأي تصالح معه، بل أعلنوها حربا ضروسا على المستعمر والمتعاونين معه الذين أغرقهم بالامتيازات المختلفة.
أما على المستوى الاجتماعي فقد تأثرت منطقة الشمال بشكل كبير بالأنماط الجديدة التي أدخلها المستعمر على المنطقة إذ حدث تغير في بنية المجتمع بسبب الإجراءات التي اتخذها المستعمر، واستفادت الجالية الاوربية من هذه البنية التحتية اجتماعيا واقتصاديا[3].
وتجذر الإشارة إلى أنه بالرغم من تمكن المستعمر من هدم البنيات الاجتماعية وتحطيم بعض المؤسسات القديمة إلا أنه لم يستطع القضاء على الأفكار والعادات المتجذرة في المنطقة، وهذا ما ذهب إليه جون واتربوري بقوله: “على المستوى الاجتماعي حطم الفرنسيون المؤسسات القديمة إلا أنهم لم يستطيعوا أن يغيروا من أخلاق
[1] – محمد لخواجة، جريدة العالم الامازيغي، عدد 10، 16 نونبر 2001، ص: 4.
[2] – مصطفى أعراب، مرجع سابق، ص: 164.
[3] – جون واتربوري، مرجع سابق، ص: 85.
———————————————————-
وتقاليد المغاربة وهكذا فإن ما احدثته الحماية من بنية تحتية بقي في العمق كيانا خارجيا غريبا مفروضا على شعب محافظ[1].
كما شهدت منطقة الشمال نزوحا كبيرا من الأرياف نحو المدن بعد أن احتل المستعمر مجموعة من البوادي فأرغمت ساكنتها لفائدة المعمرين الأوربيين والمغاربة المتعاونين الذين أمدتهم السلطات الاستعمارية على مغادرة أراضيها وممتلكاتها الاستعمارية بالدعم المادي والمعنوي[2]، من اجل تركيز سياستها الاستيطانية.
علاوة على ما سبق، يمكن الإشارة إلى أن منطقة الشمال تعتبر من أكثر المناطق كثافة على المستوى السكاني، وفي ظل غياب أبسط الموارد والأنشطة الاقتصادية فقد تفشت البطالة بشكل مهول.
أمام هذا الوضع لم يتوان أبناء المنطقة العاطلين في مواجهة المستعمر وحمل السلاح، ويعبر عن ذلك فرانز فانون بقوله: “إن هؤلاء العاطلين المنبوذين يجدون بالعمل النضالي الحاسم طريقهم إلى الاندماج في مجموعة الأمة، إن هؤلاء الناس لكي يرد إليهم الاعتبار يسلكون لدخول المجتمع طريق القنبلة والمسدس[3].
[1] – نفسه، ص. 76.
[2] – زكي امبارك، مرجع سابق، ص: 140.
[3] – فرانز فانون، المعذبون في الأرض، ترجمة سامي الدروبي وجمال الاندلسي، دار القلم، بيروت، ط 1، يناير 1972، ص: 101.
———————————————–
- ترقبوا في الجزء الثاني العناصر التالية:ميلاد جيش التحرير في منطقة الشمال، محمد بن عبد الكريم الخطابي وجيش التحرير، تأسيس جيش التحرير ابن بيئته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق