في مسألة العلمانية
عبد الإله إصباح
المغرب
يثير موضوع العلمانية وحقوق الانسان مجموعة من التساؤلات تخص طبيعة العلاقة التي تجمع بين طرفيه، وحدود التداخل والتقاطع بينهما، ومدى استقلال كل مفهوم عن الآخر من حيث مساحات المعاني والدلالات التي يختص بها دون الآخر، وكذا مجالات امتدادهما في فضاء اجتماعي معين و أنواع الحقول التي يشغلانها في هذا الفضاء، وحجم الرهانات المتوخاة من إثارتهما وتبنيهما كقضية من قضايا التغيير التاريخي الشامل. ولعله من بين التساؤلات التي تستدعي منا تحليلا ونقاشا في سياق لحظتنا الراهنة هي تلك التي يلخصها السؤال التالي: هل العلمانية مجال من مجالات حقوق الانسان، وحقلا من حقول هذا الميدان؟ بمعنى آخر هل هي مطلب حقوقي؟ أم أنها تنتمي اعتبارا لخصوصيتها المفاهيمية الى الحقل السياسي وبالتالي يترتب عن ذلك كونها مطلبا سياسيا؟
لنلاحظ بداية أن السؤالين معا تحكمهما خلفية محددة تتميز بالفصل الصارم بين ما هو سياسي وماهو حقوقي،وهوفصل لاينتبه الى أن الحقوقي والسياسي يشتغلان في فضاء واحد هو فضاء الصراع الاجتماعي،وهو ما يجعل صرامة ذلك الفصل بين المجالين لاتصمد أمام عوامل التداخل والتقاطع بينهما، لأن حقوق الانسان كمجموعة مطالب وكقضية تهم إحداث تغييرات في أوضاع وتشريعات وقوانين مرتبطة بنظام سياسي معين. ومطلب التغيير هذا هو ذاته الذي يمكن أن ترفعه حركة سياسية ويشكل عمود برنامجهاالسياسي. وعليه فإن الإجابة عن السؤال السابق تستدعي منا بدل مزيد من التأمل في طبيعة الإشكالات التي يثيرها هذا الموضوع، وبعبارة أخرى، توليد مجموعة من الأسئلة التي بإمكانها أن تؤدي بنا الى الاقتراب من معاينة سمات وخصائص هذا الاشكال المطروح.
ومن الأسئلة التي تفرض نفسها علينا في هذا المقام، سؤالان رئيسيان:
أولا: ماهي طبيعة العلاقة بين العلمانية وحقوق الانسان؟
ثانيا: ما علاقة العلمانية بالمجال السياسي؟
إن الإجابة عن هذين السؤالين تفرض علينا العودة الي السياق الفكري والتاريخي لبروز مفهوم حقوق الانسان. وهكذا يمكن القول بأن حقوق الانسان تحيل بدورها إلى مفهومين أساسين هما مفهوم الحق ومفهوم الانسان، وهما مفهومان شكل تبلورهما تطورا هاما في صيرورة تاريخ الفكر، ذلك أن مفهوم الحق عندما ارتبط بالانسان شكل قطيعة كبرى في تاريخ هذا الفكر، إذ فكت ارتباطه بحقل الميتافيزيقا و ربطته بحقل التاريخ وصراعاته، وهكذا تم الانتقال من مفهوم الحق الإلهي الى مفهوم الحق الطبيعي، وهو انتقال توازى مع صيرورة انتقال السلطة من الاقطاع الى البورجوازية. فهو إذن مفهوم يحبل بدلالات صراع تاريخي وفكري بين طبقتين، ويحيل الى لحظة تاريخية بكثافتها الرمزية، لحظة أفول سلطة الكنيسة وظهور سلطة العقل، لحظة تحرر فيها المجال السياسي من قبضة الدين وسلطته وفك الارتباط معه، لحظة أصبحت فيها السياسة متحررة من كل سلطة إلا سلطة العقل وإرادة الانسان، لحظة انتقل فيها العالم من المنظومة السياسية والفكرية للعصور الوسطى الى المنظومة السياسية والفكرية للأزمنة الحديثة والعصر الحديث، وهي منظومة احتل فيها مفهوم الانسان الصدارة والمركز وانزوى فيها مفهوم الله الى زواية الاعتقاد الفردي حيث جميع الاعتقادات متساوية ولها نفس الاعتبار، إنها لحظة ترسخ فيها الفصل بين الميتافيزيقا والتاريخ، بين الدين والعقل،بين الدين والسياسة، لحظة أعلنت عن ميلاد منظور جديد لمجال السياسة يلخصه مفهوم جديد هو مفهوم العلمانية كرؤية جديدة ومغايرة للإنسان ودوره في الطبيعة والمجتمع والتاريخ.
ذلك باختصار هو السياق التاريخي والفكري الذي العام لبروز مفهوم حقوق الانسان، حيث العلمانية هي الإطار المرجعي والفكري والفلسفي الذي احتضن تبلور هذا المفهوم وميلاده ونشأته وتطوره. فالعلاقة إذن بين العلمانية وحقوق الانسان هي علاقة مفهوم بمرجعه الفكري وإطاره النظري. وقد تم الحرص في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الانسان على الإحالة الى هذا السياق النظري باستحضار مفهوم الحرية والكرامة البشرية كطبيعة متأصلة في الانسان. وحالة الطبيعة كحالة حرية ومساواة وكرامة، لا يمكن ضمان استمرارها إلا في إطار ما عرف في القرن الثامن عشر بالعقد الاجتماعي الذي ينظم وضع الحرية والكرامة ويصونهما من التعسف والفوضى. وديباجة الاعلان بإحالتها هذه تؤكد ارتباط حقوق الانسان بإطارها العام الذي هو العلمانية. على أن هذا الارتباط لاينحصر فقط في ارتباط المفهوم بإطاره النظري العام، ولكن أيضا من خلال علاقة مباشرة بين الحقوق المنصوص عليها تفصيليا في الاعلان العالمي وبين العلمانية، ولعل المثال الأبرز لذلك هو الحق المعروف بحرية المعتقد، فالتنصيص على هذا الحق وضمانه يشترط أن لاتكون الدولة مرتبطة بأي دين رسمي، بمعنى أن تكون في وضعية حياد إزاء جميع الاديان وجميع المعتقدات، لاتتدخل إلا لحماية الحق في اعتناق أو عدم اعتناق أي منها، هذه الدولة بهذه المواصفات، دولة مفصولة عن الدين، أي دين، هي دولة بالضرورة علمانية.
يتبين إذن أن حقوق الانسان لاترتبط بالعلمانية كإطار فكري ومرجعي فقط، ولكن ترتبط بها كصفة وجوهر لأي سلطة أو دولة. وهنا قد يثار تساؤل مشروع : بما أن حقوق الانسان ترتبط وجودا بالدولة العلمانية، ألا يصبح مطلب العلمانية هاهنا مطلبا سياسيا بما أنه يتعلق بتصور للسلطة والدولة، والعمل السياسي في نهاية المطاف لايستهدف إلا السلطة والدولة بالسعي الى إصلاحها أو تغييرها أو حتى الثورة عليها؟ هاهنا نجد أنفسنا أمام الحقيقة التالية: إن الاعلان الفرنسي المعروف بإعلان حقوق الانسان والمواطن الذي ينص على مجموعة من الحقوق، قد تم تبنيه كدستور للثورة الفرنسية وتم إقراره من طرف الجمعية التأسيسية الفرنسية في جلساتها الممتدة من 20 الى 26 غشت سنة 1789، والجمعية التأسيسية هي جمعية سياسية، وتاريخ 1789 هو تاريخ الثورة الفرنسية. هكذا إذن نرى أن نصا حقوقيا أصبح نصا سياسيا دستوريا تم احتضانه من طرف ثورة سياسية شكلت نقطة تحول هامة في تاريخ البشرية. تداخل الحقوقي والسياسي في هذه اللحظة وامتزجا ليشكلا جوهرا للثورة والدولة الفرنسية الوليدة، جوهر وسمها بكونها ثورة ودولة علمانية في المقام الاول. إن هذا يؤدي بنا الى الاقرار بصعوبة الفصل بين ما هو حقوقي وما هوسياسي في مسألة العلمانية، إذ هي في الحقيقة هما معا، أو بعبارة أخرى إن الحقوقي والسياسي هنا هما وجهان لعملة واحدة ورافدان يصبان في نفس المصب فيصبحان شيئا واحدا. إن هذا التلازم بين الامرين تحقق مرة أخرى في حدث تاريخي لايقل أهمية عن الثورة الفرنسية، هو تأسيس الولايات المتحدة الامريكية الذي استند على إعلان حقوقي مشابه للإعلان الفرنسي شكل هوأيضا دستور الدولة الجديدة، وهي دولة لايجادل أحد في كونها دولة علمانية بالرغم من بعض المسوحات الدينية التي لاتنال من جوهر علمانيتها.
يمكن القول إذن بأن التلازم بين ما هوحقوقي وما هوسياسي في مسألة العلمانية،هو تلازم تاريخي باعتبار تحققه في حدثين تاريخين هما الثورة الفرنسية والثورة الامريكية، وهو بعد ذلك تلازم جوهري لايستقيم للعلمانية كيان إلا به. ويمكن الانتباه في هذا الصدد الى أن الاعلان العالمي لحقوق الانسان هو نفسه كنص حقوقي يستلهم مبادئه الكبرى من نصي الاعلان الفرنسي والامريكي اللذين وإن كانت لهما صفة حقوقية ثابتة، فإن صفتهما السياسية مؤكدة اعتبارا لكونهما يشكلان نصين دستورين لدولتين قائمتين.
على أن العلمانية مع ذلك، قد تنطبع بأحد الطابعين أكثر من الآخر حسب السياق والملابسات التاريخية والسياسية والاجتماعية لمجتمع معين، وحسب طبيعة الفاعل الذي يرفعها كمطلب وشعار. وهكذا فالمطالبة بها في سياق مماثل للسياق المغربي، يجعل حمولتها السياسية أكثر رجحانا لأنها تمس مباشرة جوهر النظام السياسي القائم على الوصل بين الدين والسياسة، وتمس أيضا قوى سياسية أصولية تستند على الدين في ممارستها السياسية. هي تمس النظام السياسي لأنها تهدم ركنا أساسيا من أركان شرعيته القائم على أساس إديولوجية متلفحة بالدين وعباءته بها يبرر سلطته ويمارس استبداده ويكرس ذلك في نص دستوري ويضفي عليه طابع القداسة. أما القوى الاصولية، فإن مطلب العلمانية يجردها من قناعها الذي على أساسه تبني قوتها وإشعاعهاوسط شريحة واسعة من المجتمع لازالت الاديولوجية الدينية تؤثر في سلوكها وتمثلاتها للواقع. إن العلمانية في مثل هذا السياق تعني إحداث تغيير جدري في بنية الحقل السياسي القائم، لأنها تستهدف قلبا جدريا في أساس المشروعية السياسية التي ستصبح تبعا لذلك نابعة من مصدر وضعي يتمثل في إرادة الشعب وسلطته عبر آليات الديمقراطية المتعارف عليها كونيا. ولكن حتى في هذه الحالة فإن الطابع الحقوقي للعلمانية يبقى حاضرا،لأن احترام إرادة الشعب إذا كان يفهم منه في الغالب بأنه مطلب سياسي، فإنه في عمقه مطلب حقوقي أيضا. وهذا ما يؤكده البندالثالث من المادة 21 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان، حيث جاء فيه : "إن إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري على أساس الاقتراع السري وعلى قدم المساواة بين الجميع أو حسب أي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت ". هاهنا إذن تحضر مصطلحات القاموس السياسي من قبيل الانتخابات النزيهة، والاقتراع السري وحرية التصويت في صلب بند من بنود حقوق الانسان وفي وثيقته الاساسية العالمية. وإذا كان مطلب العلمانية يخص في العمق مواصفات محددة لنظام الحكم ولجوهره السياسي، بمعنى أنه كمطلب يرتبط بحق تقرير المصير الذي رفعته وترفعه حركات سياسية على رأس مطالبها، فإن تقرير المصير هذا يشكل أول حق تنص عليه المادة الاولى من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذا العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، حيث جاء في هذه المادة مايلي:" لكافة الشعوب الحق في تقرير المصير، ولها استنادا الى هذا الحق، أن تقرر بحرية كيانها السياسي وأن تواصل بحرية نموها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي." إننا إذن أمام مادة حقوقية تنبني على مفاهيم سياسية تشكل ماهيتها وجوهرها،وهو ما يثبت تداخل الحقوقي والسياسي في إطار مفاهيم معينة ويكرس وحدتهما في مفهوم واحد هو مفهوم العلمانية.
وبما أن الجانب السياسي حاضر في مسألة العلمانية، فإن رفعها كشعار أو المطالبة بها من طرف هيئة حقوقية قد يثير نقاشا وجدالا يتعلق بهوية هذه الهيئة الحقوقية التي تصبح في نظر البعض مثار تشكيك أوتغليط من طرف أعداء حقوق الانسان يستهدف النيل من مصداقيتها ونضاليتها، وعزلها عن التفاعل مع المجتمع باستثمار سوءالفهم والالتباس الذي يثيره مفهوم العلمانية لدى البعض، وتحريف معناه ليصبح مرادفا للإلحاد ومعادة الدين، وهوما قد يؤدي الى هامشية تلك الهيئة ومحدودية تأثيرها في محيطها الاجتماعي. وفي هذه النقطة، فإننا نعتقد أن مجرد تنصيص هذه الهيئة بأن مرجعيتها هي المواثيق الدولية لحقوق الانسان، تكون قد أخلصت وأبرزت هويتها كهيئة حقوقية علمانية، لأن المرجعية العلمانية لتلك المواثيق تابثة. وهو ما انتبه اليه الذين عقدوا مؤتمرا لهم بالخرطوم سنة 1980 وأصدروا ما سمي بالاعلان الاسلامي لحقوق الانسان على خلفية معارضة ورفض المرجعية العلمانية للمواثيق الدولية بما فيها الاعلان العالمي لحقوق الانسان.
إن مطالبة أي سلطة أو نظام بالاحترام التام لكافة حقوق الانسان، تستضمر في العمق مطالبته بأن يكون علمانيا،إذ كيف يمكن احترام حرية المعتقد إذا لم يكن للدولة موقف حيادي إزاء جميع الأديان والمعتقدات، أي إذا لم تكن علمانية. ومهما يكن، فإن اختلاف نشطاء حقوق الانسان حول هذه المسألة ليس بالامر الجوهري، لأنه ليس اختلافا حول قيمة وحيوية وضرورة العلمانية في كل نهضة وتقدم، بقدر ما هو اختلاف في تقدير السياق الثقافي والفكري والاجتماعي وميزان القوى العام في المجتمع، لأن العلمانية كرؤية للعالم واختيار فكري وسياسي، مرتبط بالحداثة والديمقراطية، لها أنصارها كما لها أعداؤها والمناهضون لها، أي أنها تقع في قلب الصراع المحتدم داخل المجتمع بين الحداثة والتقليد. ولذلك فالاختلاف المشار اليه بين نشطاء حقوق الانسان وعموم الديمقراطيين ينبغي ان يحل في إطار مزيد من النقاش ومزيد من الحوار
عبد الإله إصباح
المغرب
يثير موضوع العلمانية وحقوق الانسان مجموعة من التساؤلات تخص طبيعة العلاقة التي تجمع بين طرفيه، وحدود التداخل والتقاطع بينهما، ومدى استقلال كل مفهوم عن الآخر من حيث مساحات المعاني والدلالات التي يختص بها دون الآخر، وكذا مجالات امتدادهما في فضاء اجتماعي معين و أنواع الحقول التي يشغلانها في هذا الفضاء، وحجم الرهانات المتوخاة من إثارتهما وتبنيهما كقضية من قضايا التغيير التاريخي الشامل. ولعله من بين التساؤلات التي تستدعي منا تحليلا ونقاشا في سياق لحظتنا الراهنة هي تلك التي يلخصها السؤال التالي: هل العلمانية مجال من مجالات حقوق الانسان، وحقلا من حقول هذا الميدان؟ بمعنى آخر هل هي مطلب حقوقي؟ أم أنها تنتمي اعتبارا لخصوصيتها المفاهيمية الى الحقل السياسي وبالتالي يترتب عن ذلك كونها مطلبا سياسيا؟
لنلاحظ بداية أن السؤالين معا تحكمهما خلفية محددة تتميز بالفصل الصارم بين ما هو سياسي وماهو حقوقي،وهوفصل لاينتبه الى أن الحقوقي والسياسي يشتغلان في فضاء واحد هو فضاء الصراع الاجتماعي،وهو ما يجعل صرامة ذلك الفصل بين المجالين لاتصمد أمام عوامل التداخل والتقاطع بينهما، لأن حقوق الانسان كمجموعة مطالب وكقضية تهم إحداث تغييرات في أوضاع وتشريعات وقوانين مرتبطة بنظام سياسي معين. ومطلب التغيير هذا هو ذاته الذي يمكن أن ترفعه حركة سياسية ويشكل عمود برنامجهاالسياسي. وعليه فإن الإجابة عن السؤال السابق تستدعي منا بدل مزيد من التأمل في طبيعة الإشكالات التي يثيرها هذا الموضوع، وبعبارة أخرى، توليد مجموعة من الأسئلة التي بإمكانها أن تؤدي بنا الى الاقتراب من معاينة سمات وخصائص هذا الاشكال المطروح.
ومن الأسئلة التي تفرض نفسها علينا في هذا المقام، سؤالان رئيسيان:
أولا: ماهي طبيعة العلاقة بين العلمانية وحقوق الانسان؟
ثانيا: ما علاقة العلمانية بالمجال السياسي؟
إن الإجابة عن هذين السؤالين تفرض علينا العودة الي السياق الفكري والتاريخي لبروز مفهوم حقوق الانسان. وهكذا يمكن القول بأن حقوق الانسان تحيل بدورها إلى مفهومين أساسين هما مفهوم الحق ومفهوم الانسان، وهما مفهومان شكل تبلورهما تطورا هاما في صيرورة تاريخ الفكر، ذلك أن مفهوم الحق عندما ارتبط بالانسان شكل قطيعة كبرى في تاريخ هذا الفكر، إذ فكت ارتباطه بحقل الميتافيزيقا و ربطته بحقل التاريخ وصراعاته، وهكذا تم الانتقال من مفهوم الحق الإلهي الى مفهوم الحق الطبيعي، وهو انتقال توازى مع صيرورة انتقال السلطة من الاقطاع الى البورجوازية. فهو إذن مفهوم يحبل بدلالات صراع تاريخي وفكري بين طبقتين، ويحيل الى لحظة تاريخية بكثافتها الرمزية، لحظة أفول سلطة الكنيسة وظهور سلطة العقل، لحظة تحرر فيها المجال السياسي من قبضة الدين وسلطته وفك الارتباط معه، لحظة أصبحت فيها السياسة متحررة من كل سلطة إلا سلطة العقل وإرادة الانسان، لحظة انتقل فيها العالم من المنظومة السياسية والفكرية للعصور الوسطى الى المنظومة السياسية والفكرية للأزمنة الحديثة والعصر الحديث، وهي منظومة احتل فيها مفهوم الانسان الصدارة والمركز وانزوى فيها مفهوم الله الى زواية الاعتقاد الفردي حيث جميع الاعتقادات متساوية ولها نفس الاعتبار، إنها لحظة ترسخ فيها الفصل بين الميتافيزيقا والتاريخ، بين الدين والعقل،بين الدين والسياسة، لحظة أعلنت عن ميلاد منظور جديد لمجال السياسة يلخصه مفهوم جديد هو مفهوم العلمانية كرؤية جديدة ومغايرة للإنسان ودوره في الطبيعة والمجتمع والتاريخ.
ذلك باختصار هو السياق التاريخي والفكري الذي العام لبروز مفهوم حقوق الانسان، حيث العلمانية هي الإطار المرجعي والفكري والفلسفي الذي احتضن تبلور هذا المفهوم وميلاده ونشأته وتطوره. فالعلاقة إذن بين العلمانية وحقوق الانسان هي علاقة مفهوم بمرجعه الفكري وإطاره النظري. وقد تم الحرص في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الانسان على الإحالة الى هذا السياق النظري باستحضار مفهوم الحرية والكرامة البشرية كطبيعة متأصلة في الانسان. وحالة الطبيعة كحالة حرية ومساواة وكرامة، لا يمكن ضمان استمرارها إلا في إطار ما عرف في القرن الثامن عشر بالعقد الاجتماعي الذي ينظم وضع الحرية والكرامة ويصونهما من التعسف والفوضى. وديباجة الاعلان بإحالتها هذه تؤكد ارتباط حقوق الانسان بإطارها العام الذي هو العلمانية. على أن هذا الارتباط لاينحصر فقط في ارتباط المفهوم بإطاره النظري العام، ولكن أيضا من خلال علاقة مباشرة بين الحقوق المنصوص عليها تفصيليا في الاعلان العالمي وبين العلمانية، ولعل المثال الأبرز لذلك هو الحق المعروف بحرية المعتقد، فالتنصيص على هذا الحق وضمانه يشترط أن لاتكون الدولة مرتبطة بأي دين رسمي، بمعنى أن تكون في وضعية حياد إزاء جميع الاديان وجميع المعتقدات، لاتتدخل إلا لحماية الحق في اعتناق أو عدم اعتناق أي منها، هذه الدولة بهذه المواصفات، دولة مفصولة عن الدين، أي دين، هي دولة بالضرورة علمانية.
يتبين إذن أن حقوق الانسان لاترتبط بالعلمانية كإطار فكري ومرجعي فقط، ولكن ترتبط بها كصفة وجوهر لأي سلطة أو دولة. وهنا قد يثار تساؤل مشروع : بما أن حقوق الانسان ترتبط وجودا بالدولة العلمانية، ألا يصبح مطلب العلمانية هاهنا مطلبا سياسيا بما أنه يتعلق بتصور للسلطة والدولة، والعمل السياسي في نهاية المطاف لايستهدف إلا السلطة والدولة بالسعي الى إصلاحها أو تغييرها أو حتى الثورة عليها؟ هاهنا نجد أنفسنا أمام الحقيقة التالية: إن الاعلان الفرنسي المعروف بإعلان حقوق الانسان والمواطن الذي ينص على مجموعة من الحقوق، قد تم تبنيه كدستور للثورة الفرنسية وتم إقراره من طرف الجمعية التأسيسية الفرنسية في جلساتها الممتدة من 20 الى 26 غشت سنة 1789، والجمعية التأسيسية هي جمعية سياسية، وتاريخ 1789 هو تاريخ الثورة الفرنسية. هكذا إذن نرى أن نصا حقوقيا أصبح نصا سياسيا دستوريا تم احتضانه من طرف ثورة سياسية شكلت نقطة تحول هامة في تاريخ البشرية. تداخل الحقوقي والسياسي في هذه اللحظة وامتزجا ليشكلا جوهرا للثورة والدولة الفرنسية الوليدة، جوهر وسمها بكونها ثورة ودولة علمانية في المقام الاول. إن هذا يؤدي بنا الى الاقرار بصعوبة الفصل بين ما هو حقوقي وما هوسياسي في مسألة العلمانية، إذ هي في الحقيقة هما معا، أو بعبارة أخرى إن الحقوقي والسياسي هنا هما وجهان لعملة واحدة ورافدان يصبان في نفس المصب فيصبحان شيئا واحدا. إن هذا التلازم بين الامرين تحقق مرة أخرى في حدث تاريخي لايقل أهمية عن الثورة الفرنسية، هو تأسيس الولايات المتحدة الامريكية الذي استند على إعلان حقوقي مشابه للإعلان الفرنسي شكل هوأيضا دستور الدولة الجديدة، وهي دولة لايجادل أحد في كونها دولة علمانية بالرغم من بعض المسوحات الدينية التي لاتنال من جوهر علمانيتها.
يمكن القول إذن بأن التلازم بين ما هوحقوقي وما هوسياسي في مسألة العلمانية،هو تلازم تاريخي باعتبار تحققه في حدثين تاريخين هما الثورة الفرنسية والثورة الامريكية، وهو بعد ذلك تلازم جوهري لايستقيم للعلمانية كيان إلا به. ويمكن الانتباه في هذا الصدد الى أن الاعلان العالمي لحقوق الانسان هو نفسه كنص حقوقي يستلهم مبادئه الكبرى من نصي الاعلان الفرنسي والامريكي اللذين وإن كانت لهما صفة حقوقية ثابتة، فإن صفتهما السياسية مؤكدة اعتبارا لكونهما يشكلان نصين دستورين لدولتين قائمتين.
على أن العلمانية مع ذلك، قد تنطبع بأحد الطابعين أكثر من الآخر حسب السياق والملابسات التاريخية والسياسية والاجتماعية لمجتمع معين، وحسب طبيعة الفاعل الذي يرفعها كمطلب وشعار. وهكذا فالمطالبة بها في سياق مماثل للسياق المغربي، يجعل حمولتها السياسية أكثر رجحانا لأنها تمس مباشرة جوهر النظام السياسي القائم على الوصل بين الدين والسياسة، وتمس أيضا قوى سياسية أصولية تستند على الدين في ممارستها السياسية. هي تمس النظام السياسي لأنها تهدم ركنا أساسيا من أركان شرعيته القائم على أساس إديولوجية متلفحة بالدين وعباءته بها يبرر سلطته ويمارس استبداده ويكرس ذلك في نص دستوري ويضفي عليه طابع القداسة. أما القوى الاصولية، فإن مطلب العلمانية يجردها من قناعها الذي على أساسه تبني قوتها وإشعاعهاوسط شريحة واسعة من المجتمع لازالت الاديولوجية الدينية تؤثر في سلوكها وتمثلاتها للواقع. إن العلمانية في مثل هذا السياق تعني إحداث تغيير جدري في بنية الحقل السياسي القائم، لأنها تستهدف قلبا جدريا في أساس المشروعية السياسية التي ستصبح تبعا لذلك نابعة من مصدر وضعي يتمثل في إرادة الشعب وسلطته عبر آليات الديمقراطية المتعارف عليها كونيا. ولكن حتى في هذه الحالة فإن الطابع الحقوقي للعلمانية يبقى حاضرا،لأن احترام إرادة الشعب إذا كان يفهم منه في الغالب بأنه مطلب سياسي، فإنه في عمقه مطلب حقوقي أيضا. وهذا ما يؤكده البندالثالث من المادة 21 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان، حيث جاء فيه : "إن إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري على أساس الاقتراع السري وعلى قدم المساواة بين الجميع أو حسب أي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت ". هاهنا إذن تحضر مصطلحات القاموس السياسي من قبيل الانتخابات النزيهة، والاقتراع السري وحرية التصويت في صلب بند من بنود حقوق الانسان وفي وثيقته الاساسية العالمية. وإذا كان مطلب العلمانية يخص في العمق مواصفات محددة لنظام الحكم ولجوهره السياسي، بمعنى أنه كمطلب يرتبط بحق تقرير المصير الذي رفعته وترفعه حركات سياسية على رأس مطالبها، فإن تقرير المصير هذا يشكل أول حق تنص عليه المادة الاولى من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذا العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، حيث جاء في هذه المادة مايلي:" لكافة الشعوب الحق في تقرير المصير، ولها استنادا الى هذا الحق، أن تقرر بحرية كيانها السياسي وأن تواصل بحرية نموها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي." إننا إذن أمام مادة حقوقية تنبني على مفاهيم سياسية تشكل ماهيتها وجوهرها،وهو ما يثبت تداخل الحقوقي والسياسي في إطار مفاهيم معينة ويكرس وحدتهما في مفهوم واحد هو مفهوم العلمانية.
وبما أن الجانب السياسي حاضر في مسألة العلمانية، فإن رفعها كشعار أو المطالبة بها من طرف هيئة حقوقية قد يثير نقاشا وجدالا يتعلق بهوية هذه الهيئة الحقوقية التي تصبح في نظر البعض مثار تشكيك أوتغليط من طرف أعداء حقوق الانسان يستهدف النيل من مصداقيتها ونضاليتها، وعزلها عن التفاعل مع المجتمع باستثمار سوءالفهم والالتباس الذي يثيره مفهوم العلمانية لدى البعض، وتحريف معناه ليصبح مرادفا للإلحاد ومعادة الدين، وهوما قد يؤدي الى هامشية تلك الهيئة ومحدودية تأثيرها في محيطها الاجتماعي. وفي هذه النقطة، فإننا نعتقد أن مجرد تنصيص هذه الهيئة بأن مرجعيتها هي المواثيق الدولية لحقوق الانسان، تكون قد أخلصت وأبرزت هويتها كهيئة حقوقية علمانية، لأن المرجعية العلمانية لتلك المواثيق تابثة. وهو ما انتبه اليه الذين عقدوا مؤتمرا لهم بالخرطوم سنة 1980 وأصدروا ما سمي بالاعلان الاسلامي لحقوق الانسان على خلفية معارضة ورفض المرجعية العلمانية للمواثيق الدولية بما فيها الاعلان العالمي لحقوق الانسان.
إن مطالبة أي سلطة أو نظام بالاحترام التام لكافة حقوق الانسان، تستضمر في العمق مطالبته بأن يكون علمانيا،إذ كيف يمكن احترام حرية المعتقد إذا لم يكن للدولة موقف حيادي إزاء جميع الأديان والمعتقدات، أي إذا لم تكن علمانية. ومهما يكن، فإن اختلاف نشطاء حقوق الانسان حول هذه المسألة ليس بالامر الجوهري، لأنه ليس اختلافا حول قيمة وحيوية وضرورة العلمانية في كل نهضة وتقدم، بقدر ما هو اختلاف في تقدير السياق الثقافي والفكري والاجتماعي وميزان القوى العام في المجتمع، لأن العلمانية كرؤية للعالم واختيار فكري وسياسي، مرتبط بالحداثة والديمقراطية، لها أنصارها كما لها أعداؤها والمناهضون لها، أي أنها تقع في قلب الصراع المحتدم داخل المجتمع بين الحداثة والتقليد. ولذلك فالاختلاف المشار اليه بين نشطاء حقوق الانسان وعموم الديمقراطيين ينبغي ان يحل في إطار مزيد من النقاش ومزيد من الحوار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق