الأحد، 14 مارس 2010

السياسة و الميتولوجيا/ أحمد الخنبوبي

في مقالي هذا سأربط بين فرعين علميين يبدوان في الوهلة الأولى متباعدين، لكن في حقيقتهما هما علمان من أصل واحد ،ألا و هما علما الأسطورة والسياسة. حيث سأقارب بين الفكر السياسي و الفكر الميثي انطلاقا من أسطورة "تمغراوشن" أو عرس الذئب، التي تنتشر بشمال إفريقيا. وبهذه المقاربة سأخرج من الدائرة الضيقة للتخصص العلمي ،كي أجنب نفسي المسارات العلمية الضيقة ،لأقوم بالمزاوجة بين الرؤية العلمية و التخصص الدقيق(1) ،حيث أن تفاعل علم السياسة مع الاقتصاد ولد الاقتصاد السياسي ،و مع علم النفس أنتج علم النفس السياسي، و مع الجغرافيا فولدت الجغرافيا السياسية، و مع الفلسفة فولد الفكر السياسي، و مع التسويق فأعطى التسويق السياسي، و ها أنا أقارب اليوم السياسة بالميثولوجيا
.

هذا و تعد السياسة أو بوليتيكا فن تدبير المدينة و شؤونها، وحسب ماكس فيبير فإن السياسة تعتبر مجموع المجهودات الرامية إلى المشاركة في السلطة، أو التأثير عليها من خلال الدولة أو مجموعات المصالح. و منذ وجود الإنسان على وجه الأرض، و العيش مع الآخرين ضرورة تتطلبها الطبيعة الإنسانية، و بالتالي فالسلطة وضع اجتماعي بالأساس .و تنقسم اهتمامات البوليتولوجيا أو علم السياسة بالأساس: إلى المؤسسات السياسية و دراسة العلاقات السياسية الدولية و أخيرا إلى النظرية
السياسية و الفكر السياسي،(2) هذا الأخير- أي الفكر السياسي - يتقاطع بشكل ملفت مع الفكر
الميثي، أوما يمكن أن ما نسميه تقاطع البوليتولوجيا و الميثولوجيا. و الفكر الميثيي أو الميثولوجيا هو الفكر المرتبط بالأساطير و الحكايات و الطقوس، و المعتقدات المرتبطة بالأصول و المفسرة للظواهر
(3)، و المتعلقة بالخلق و نشأة الكون و الكائنات، و المهتمة بالعلاقات بين الخالق و المخلوق، و الإنسان و الطبيعة ثم الإنسان و الحيوان.

و في إطار العلاقة بين الميثولوجيا و السياسة، يرى محمد سبيلا أن الميثولوجيا و الايدولوجيا
مترادفان، فالدور الذي تلعبه الايدولوجيا في المجتمع الحديث هو نفسه الذي تلعبه الميثولوجيا في
المجتمع البدائي، و أن الأسطورة ينظر إليها البعض كخرافة أو حكاية غير واقعية و غريبة، إلا أنه في
العصر الحديث أصبحت لها دلالات كبيرة في ميداني الانتروبولوجيا و الاتنولوجيا، كما أصبحت
للأسطورة وظائف اجتماعية وثقافية، و أصبح لها ارتباط بالعلوم الإنسانية التي أعادت الاعتبار
للخيال و المتخيل(4).

إن الحديث عن العلاقة بين السياسة و الأسطورة في الثقافة المغربية الأمازيغية يحيلنا بقوة على
أسطورة "تمغراوشن" أو "عرس الديب"، هذه الأسطورة الأمازيغية المتجذرة و العريقة أضحت شبه
مفقودة من التداول اليوم، إلا أن لفظ "تمغراوشن" أو كما يسميها أهل نفوسة بليبيا "إسلان وشن"، تطلق على حالة الجو أو الطقس، التي تتميز بسقوط المطر و لمعان الشمس و ظهور قوس قزح في نفس الوقت، و في هذا السياق جاء في مؤلف دراسات في الفكر الميثي الأمازيغي لمحمد أوسوس، أن الأطفال عند حلول هذا الجو المضطرب بمنطقة سوس يرددون شعرا يقول:

تويل تكوت ترغ تفوكت
أرداغ إتاغ أوسكاي أوشن
إلا أونزار ترغ تافوكت
و معناها:
انقشع الضباب و ارتفعت حرارة الشمس
الكلب ينبح صوب الذئب
المطر يهطل في واضحة النهار (5)

و بما أن لكل أسطورة أصل و مرجعية فكرية، و واقعة تؤرخ لها و تعطيها المصداقية اللازمة
لاستمراريتها ،فإن أصل أسطورة "تمغراوشن" ، يعود إلى أن "أوشن" أو الذئب خالف الطبيعة
و ناقضها بأن تزوج أنثى الحمار أو الأتان، مما اضطر الحيوانات إلى نفيه إلى قمة الجبل نظرا
لتصرفه الشاذ و الخارج عن الطبيعة و المنطق، مما أدى إلى غضب الطبيعة و حدوث التناقض، أي سقوط المطر و لمعان الشمس . و قد سبق حدث زواج "أوشن" أو الذئب ،اجتماع كل حيوانات الغابة و اتفاقها على إلغاء قانون الغاب- أدعو إلى استنباط مضامين ما أقول و تحليلها و ربطها مع الواقع، فأنا رغم سرد وقائع الحكاية أو الأسطورة ،أرتبط دائما مع الهاجس السياسي لها- و هكذا اتفقت الحيوانات على جعل الأسد ملكا، و الخنزير فراشا، و الأرنب وسادة ،و الذئب غطاءا، و الثعلب ساقيا، و الحمار محتطبا، والدجاجة بياضة، و البقرة حلوبا، و العنزة راعية في أمان. لكن هذا الوضع الهادئ و المنظم لم يكن ليرضي الذئب ،و هو ما دفع به إلى العصيان و الوشاية الكاذبة و إحداث الصراعات الثنائية و التفرقة و الفوضى بين الحيوانات ،و هو ما أدى إلى عودة قانون الغاب من جديد، أي أن يأكل القوي الضعيف .

يستنتج من أسطورة "تمغراوشن"، و غيرها من الأساطير المرتبطة بالذئب و حيوانات الغابة في الثقافة الأمازيغية، أن الذئب قريب من السلطة أو الملك أو الأسد، فالذئب سيد و في نفس الوقت مسود، فهو يحجب و يستر و يغطي الوجه الحقيقي للسلطة، فإذا سقط الذئب انكشفت السلطة، ثم إن الذئب يرمز إلى الاحتيال و المكائد و الدسائس، كما أن الذئب يعبر عن الذكاء السلبي أو الذكاء غير النافع ، الذي يقابله الذكاء النافع و الصالح للبشرية الذي يرمز إليه القنفذ في الثقافة الشعبية المغربية ،و يقال أن للقنفذ حيلة و نصف ،بينما للذئب حيلة واحدة(6).

إن مجرد إطلالة على الفكر الميثي لدى شعوب حوض الأبيض المتوسط ، و بعض الأقطار الأسيوية كالهند و الصين و بلاد الفرس و غيرها، يوصلنا إلى أن رمزية الذئب و صفاته لا تختلف كثيرا بين هذه المناطق، و هذا ما يوصلنا إلى ما قاله محمد بزيكا - شفاه الله -، من أن الأساطير توصل إلى وحدة العقل الإنساني (7)، في ذات السياق اكتشف عالم النفس يونغ (1875-1961)، أن الرموز التي كررها الإنسان في كل زمان و مكان هي نفسها، و قد سماها بالنماذج الأصلية أو الجذور، و توصل عن طريقها إلى إثبات وحدة التراث الإنساني.فمثلا، في حكايات كليلة و دمنة التي تعد من أروع ما أبدعته البشرية، توجد حكاية تحت اسم "الذئب و الغراب وابن آوى و الجمل "، مفادها أن الجوع أصاب الأسد ،و بالتالي فهذه الحيوانات اللاحمة و منها الذئب، لم تعد تقتات من فضلات الأسد و فتاته ،و اضطرت للتآمر على الجمل الآكل للعشب و بالتالي افتراسه و أكله، رغم معاشرته لهم لمدة من الزمن ، و هنا يظهر دائما الذئب في صورة المحتال و الماكر و الغدار. و هنا يستنتج حبيب يوسف مغنية من خلال هذه الحكاية الأسطورية، التي يختلط فيها التراث العربي بالفارسي بالهندي، بأن الدولة القوية تضمن أمن مواطنيها و تبعث سعادتهم و تعمل على وحدتهم، و متى ضعفت الدولة انقسم مواطنوها إلى مجموعات متفرقة متنافسة و متصارعة، ثم وصل إلى أن خير السلاطين من أشبه النسر و حوله الجيف لا من أشبه الجيف و حولها النسور(8)،ثم يرى أن أعظم الأخطار التي يخافها الحاكم هو أن يبتلى بأديب و حكواتي مثل عبد الله ابن المقفع، الذي جهر بآراء جريئة ،هي في الحقيقة من أهداف جميع الشرائع الدينية التي تؤمن بالإنسان و الانتصار لقضاياه الأساسية و حقوقه المشروعة(9).

إن العلاقة الجدلية إذن بين الفكر الميثي و الفكر السياسي ،تبدوا واضحة مما لا شك فيه،
فقد تأثرت الأساطير بالسياسة و الظروف السياسية العامة، كما تأثرت السياسة و الأفكار و النظريات
السياسية بالأساطير و الفكر الميثي الإنساني بصورة عامة، فنجد مثلا أن توماس هوبز (1588-1679)
صاحب نظرية الحق الطبيعي، المتجلي حسب تصوره في حق البقاء و الدفاع و العيش و الملكية، يرى
أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان(10)،في تأثر مكشوف بالفكر الأسطوري، حيث يؤكد أن الفوضى الطبيعية على حد تعبيره تؤدي حتما إلى وضع القوانين و التشريعات داخل الدولة. كما أن المفكر السياسي الايطالي ميكيافليي يقول في كمخاطبته للملوك و رجال السياسة، بأن الذين استطاعوا تقليد الثعلب بمهارة حققوا أفضل نجاح ،ولكن لابد أن تكون هناك قدرة على اٍخفاء هذه الصفة بمهارة،واستطاعة على التمويه و الخداع . و هكذا و في نفس الإطار، أعود إلى محمد سبيلا حيث اكتشف أن ملامح أسطورية الاديولوجيات السياسية الحديثة على حد تعبيره ،تتعلق أساسا بالعقل و ما يرتبط به من مفاهيم كالعدالة و الحرية و الحقوق، و كذا البيولوجيا و ما يرتبط بها من مفاهيم كالأصول و العرق و الهوية، و أخيرا الدولة و ما يتعلق بها من مفاهيم كالليبرالية و الاشتراكية و الثورة (11).إن الأسطورة حسب المفكر مالينو فسكي (1884-1942) ، لا تستمر إلا إذا كانت تؤدي وظيفة ما، تسلية، إديولوجيا، أو سياسة،أو تبرير نظام اجتماعي، أو تركيز سلطة في يد فئة اجتماعية أو سلالية أو أسرة حاكمة ،أو تفوق أقلية على الأغلبية.

في الأخير إذن ومن خلال التمعن في أسطورة "تمغراوشن" أو عرس الذئب، و غيرها من الأساطير
و الحكايات القديمة، و خصوصا منها تلك المرتبطة بحيوانات الغابة و بالبهائم و الطيور، نجد أن كل
تلك الدلالات و الإحالات و الرموز ،إنما تعد متنفسا أو هروبا للكتاب و للحكواتيين، و للمجتمعات التي
تصنع الأساطير و تضخ فيها دماء الاستمرارية، -هروبا- من بطش السلطة و الحكام و السياسيين.
و منه فإن العامة و الأغراب يكتفون بما يتبدى في الظاهر من لهو و تسلية و تسجية لأوقات الفراغ،
و لا يستنبطون الحكم و العبر و الدروس الاجتماعية و الأخلاقية (12)،و هنا أضيف حتى السياسية بطبيعة الحال، بل و التاريخية كذلك ،حيث أن عبد المعطي الشعراوي يجد أن التاريخ خرج من عباءة الأسطورة، و أن الأسطورة خرجت من عباءة التاريخ(13).

الهوامش و الإحالات:

(1)-عمار علي حسن،مثقف له أربع عيون،جريدة أخبار اليوم،يوم 27 يناير 2009.

(2)-ـ للمزيد من التفاصيل أنظر كتابنا : التسويق السياسي ... مقاربة نظرية، ص 27 و28 و29، مطبعة الواحة، سنة 2009.

(3)-ـ محمد أوسوس، دراسات في الفكر الميثي الأمازيغي، ص 5، المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية،سنة 2007.

(4)-ـ محمد سبيلا، ما هي الأسطورة السياسية، جريدة أخبار اليوم، عدد 19 ليوم 23/03/2009.

(5)-ـ محمد أوسوس، المرجع السابق، ص 56.

(6)-ـ المرجع السابق، ص 63.

(7)-ـ محمد بزيكا، الوجه و القناع في ثقافتنا الشعبية، مداخلة في الجامعة الصيفية بأكادير حول موضوع الثقافة الشعبية: الوحدة في التنوع، ص 219، سنة 1980.

(8)-ـ حبيب يوسف مغنية، شرح كتاب كليلة ودمنة، ص 210، دار ومكتبة الهلال بيروت، سنة 2006.

(9)-ـ المرجع السابق، ص 10.

(10)-ـ محمد نشطاوي، محاضرات في العلاقات الدولية، ص8 ، جامعة القاضي عياض بمراكش، سنة 2001.

(11)-ـ محمد سبيلا، المرجع السابق.

(12)-ـ عبد الله إبن المقفع، كليلة و دمنة،ص 16، دار و مكتبة الهلال بيروت، سنة 2006.

(13)-ـ عبد المعطي الشعراوي، أثينا المدينة و الأسطورة،عالم الفكر، ص 259، المجلد 38، سنة 2009.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق