الخميس، 11 فبراير 2010

نماذج من أساليب التعذيب البعثية

د. كاظم حبيب
برلين

إن فترة التحالف البعثي – القومي في الحكم, التي دامت قرابة عشرة شهور, تقدم للقارئة والقارئ نماذج صارخة جداً لسلوكية العنف والقسوة والإمعان في تعذيب الإنسان نفسياً وجسدياً ومحاولة تحطيمه معنوياً وتدمير حياته, سواء بالموت أو التعويق أو الإنهاء السياسي أو تحويل
السياسي إلى مخبر يعمل في صفوف الحاكمين ضد رفاق دربه السابقين. وقد سجلت أقلام المعذبين أحياناً

وشهود عيان أحياناً أخرى والتقارير التي كشف عنها في فترات لاحقة أو ما نشرته القوى القومية, بسبب صراعها مع البعثيين عما جرى في تلك الفترة, صوراً ومشاهد يصعب على الإنسان السوي تصور حدوثها أو أن في قدرة الإنسان ممارستها إزاء أخيه الإنسان. وسنحاول في أدناه عرض بعض المشاهد من أساليب التعذيب التي مورست في تلك الفترة العصيبة من تاريخ العراق السياسي.

تعرض جميع المعتقلين السياسيين دون استثناء إلى مختلف أساليب التعذيب الجسدي والنفسي, مع الفارق في نوع وشدة ومدة التعذيب ونهاياته وعواقبه على الفرد, ومن ثم على العائلة. ففي الوقت الذي تعرض بعض المعتقلين للضرب والتعليق والفلقة وما شاكل ذلك, إضافة إلى الإهانات المستمرة, تعرض آخرون إلى أشكال أخرى من التعذيب الأكثر شراسة واستخدام أدوات أخرى لتهشيم وتقطيع جسم الإنسان أرباً إربا. ننقل بعض المشاهد الواقعية دون تعليق أو إضافات:

نشر كتاب "المنحرفون" إفادة الدكتور علي الزبيدي, الأستاذ المساعد في كلية الآداب بجامعة بغداد, جاء فيها وصفاً لعملية التعذيب التي تعرض لها, كما تعرض لها معتقلون آخرون يقول فيها ما يلي:
"إنهم يربطون يد الموقوف وراء ظهره ثم يربطونها بحبل يتدلى من بكرة في السقف ويجذبون طرف الحبل الآخر فيرتفع جسم الإنسان .. إن اليدين المعلولتين ترتفعان مع الحبل إلى أعلى من الجهة الخلفية وما أن تصل إلى مستوى قريب من الكتف حتى تشعر الضحية بالآم هائلة وتزداد هذه الآلام كلما ازداد الجذب وتصل إلى غايتها عندما يرتفع الجسم كله .. وكانوا لا يرفعون الجسم إلى ارتفاع عال بل إلى الدرجة التي تظل القدمان تلامسان الأرض بأصابعه ... ويعلو صراخ الضحية وهي تتوسل بهم أن ينزلوها ... ولكنهم يستمرون في التحقيق والصراخ: تكلم .. اعترف أنك قد .. وتتوالى الكلمات البذيئة والسب الرخيص فإذا أصر على عدم الاعتراف كما يريدون يجذبون الحبل أكثر فأكثر فيشتد الصراخ والاستغاثة ... ثم ينهالون عليه بالضرب بالعصي الغليظة .. أو بأنابيب المطاط (الصوندات) .. وعندما تصل ألام المتهم إلى حد لا يطاق يحشون فمه بالقطن فإذا أغمي عليه أنزلوه وسكبوا عليه سطلاً من الماء أو حقنوه بإبرة خاصة ليعاودوا تعذيبه حتى يخبرهم بما يريدون .. وإذا قصر أعادوه إلى مكانه بعد أن يتعبون من تعذيبه ويتركونه في غرفة التعذيب أو يحملونه ويعيدونه إلى مكانه السابق في القاعة... وهكذا كان .. يأتي الحرس إلى المكان ليأخذوه مرة أخرى .. لن تتجاوب أرجاء القصر المشؤوم (المقصود هنا قصر النهاية, أي قصر الرحاب الخاص بسكن الوصي على عرش العراق عبد الإله بن علي بن الحسين سابقاً, ك. حبيب) بصراخ المعذب ... لقد شرعوا بتعليقه مرة أخرى ويستمر هذا الصراخ مدة تطول أو تقصر ثم تخمد فجأة .. وما أن تمر فترة ربع ساعة أو أكثر من خمود الصوت حتى يأتي الحرس إلينا ثانية يقود رجلاً آخر إلى جحيم التحقيق والتعذيب وجمد الدم في عروقنا .. كان كل منا ينتظر أن يأتيه الدور ولكن متى؟"1.

جاء في هامش الكتاب الذي أصدره الدكتور والمؤرخ الراحل علي كريم سعيد بشان تعذيب أعضاء قيادة الحزب الشيوعي العراقي ما يلي:

"أولاً: روى خالد طبرة (وهو أحد أعضاء هيئة التحقيق الخاصة. ك حبيب) لصفاء الفلكي (سفير في أكثر من بلد وبعثي ساهم بكل المراحل السابقة) قائلاً له: حفرنا أنا وسعدون شاكر (وزير داخلية ومدير أمن عام بعد ناظم كزار) قبراً لمحمد صالح العبلي وجئنا به وأنزلناه إلى القبر (الحفرة) وبعد مدة بداخله, طالبه سعدون شاكر بالاعتراف أو الموت؟ فرد عليه العبلي بشجاعة واتهمنا بخيانة الوطن. فأطلق عليه سعدون شاكر (الرصاص) فمات فوراً دون أن يعترف أو يتنازل, وحصل الأمر مع مهدي حميد.

ثانياً: المحامي حمزة سلمان الجبوري عضو لجنة مركزية جيء به مع الضابط الشيوعي مهدي حميد من نقرة السلمان إلى بغداد (مركز تحقيق المأمون) وطالبوه أمام حشد من المعتقلين بالاعتراف ثم طلبوا منه أن يعد من الواحد إلى العشرة وقبل أن تنتهي أطلق عليه (الرصاص) فمات. ثم جيء بمتي الشيخ مباشرة فرفض الاعتراف فقتل بنفس الطريقة.

ثالثاً: قتل عضو المكتب السياسي جمال الحيدري والصحفي عبد الجبار وهبي بعد اعتقالهما مع العبلي في دار فاضل الخطيب والد الدكتور الراحل عطا الخطيب والدكتورة عطية الخطيب, فوراً بعد رفضهما الاعتراف, وقتل معهما أبن جمال الحيدري ونرجس الصفار الصبي فاضل الحيدري, وعمره 14 سنة, وكان يقوم بنقل البريد أحياناً.

رابعاً: مقتل توفيق منير العاني بدار هاشم عبد القادر المملوكة لعزيز شريف, مقابل السفارة المصرية والمجاور لدار عز الدين الراوي (أخو عبد الهادي الراوي). وتمت العملية بعد أن أبلغ أحد عناصر الأمن بوجوده فنزل عليه الحرس القومي من سطح الدار, وعلى عكس ما أشيع من أنه قاتلهم فقتل, لم يكن الراحل يحمل سلاحاً بل بادره بالرمي بصليات كثيرة فتناثرت دماؤه في كل مكان. ويذكر أن نوري السعيد كان قد سحب جنسيته العراقية مع كامل القزانجي (من قادة الحزب الوطني الديمقراطي السابقين) (الذي قتله البعثيون في محاولتهم الانقلابية في آذار العام 1959 في الموصل, ك. حبيب) ومع آخرين في العام 1954 وسفَّره إلى خارج البلاد. وكان توفيق منير حائزاً على جائزة جوليو كوري للسلام.

خامساً: أعتقل متي الشيخ مع الدكتور محمد الجلبي في دار الأخير ونقلا إلى مركز المأمون, فقتل متي الشيخ مع عضو اللجنة المركزية الآخر حمزة سلمان الجبوري, ومهدي حميد, في حين نقل الجلبي إلى قصر النهاية, ووضع في السرداب مع سلام عادل والآخرين2, ثم نقل عضو اللجنة المركزية نافع يونس إلى بناية محكمة الشعب, وقتلا هناك في تموز 1963, أي بعد شهر من تقرير د. علوش"3.

يصف عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي حينذاك والراحل صالح مهدي دگلة الوضع بعد اعتقاله مباشرة كالآتي:

"وفي الحال جاءني ضابط الحرس القومي الجلاد أحمد أبو الجبن (أحمد العزاوي, الذي قتل في دمشق في العام 1976 على أيدي الأمن العراقي الصدامي, ك. حبيب), وقد منحه الانقلابيون رتبة ملازم واصطحبني إلى القاعة الرئيسية لنادي الاقتصاديين الذي حولوه إلى مقر رئيسي للحرس القومي. وأمام العشرات من المعتقلين صار يوجه اللكمات ويزعق أنه هو (يقصدني) الذي كتب وطبع هذا النداء "الخياني الحقير". وكان يتصور أنه بالتستر على المطبعة يستطيع خداعنا ولكن يقظة الثوريين من الحراس سرعان ما كشفت بوسائلها الذكية جهاز الخيانة. أعادوني إلى غرفة التعذيب ورموني على الأرض بحراسة صبي يحمل رشاشة سترلنگ. عرفت, مع الأسف, فيما بعد أنه فلسطيني من المفترض أن يتعاطف مع كل المضطهدين أمثال شعبه ولكن ما العمل وهو مضلل صار يتسلى بشتمي حيث جاوز حدود الأدب واللياقة فبدأ يكيل لي ولعائلتي أقذع الشتائم, فما كان مني إلا أن أرد عليه بمثلها وبأقذع منها. هنا لم يتمالك الصبي "الحارس القومي" أعصابه فراح يطلق عليَّ الرصاص من رشاشته وأصابني في مناطق مختلفة من جسمي وأصاب الحائط الذي اتكأت عليه أيضاً.والذي انطلقت منه شظايا أصابت وجهي واستقرت في أسناني. أما الإصابات البليغة فواحدة في صدري وأخرى استقرت في مفصل ركبتي فضلاً عن شظية كبيرة استقرت في صدغي الأيسر بالقرب من الأذن"4.

وهذا نص آخر يوضح الأساليب التي مورست في تعذيب المناضل الراحل حسين الرضي (سلام عادل) السكرتير الأول اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي بعد أن اعتقل في التاسع عشر من شهر شباط/فبراير 1963 وأعلن عن إعدامه وإعدام رفيقيه محمد حسين أبو العيس وحسن عوينة في السابع من آذار/مارس من نفس العام. وكان القادة الثلاثة قد قتلا تحت التعذيب, ولم يكن إعلان الإعدام سوى ذر الرماد بالعيون وإخفاء حقيقة التعذيب القاتل.

" وبعد أن فشلت كل أساليبهم في النيل من إرادته الفولاذية ضربوه بالهراوات حتى أدموه, علقوه من رجليه مشدوداً إلى السقف, أوقعوه مغشياً عليه ... قطعوا من لحم ساقه وذروه بالملح ... كسروا عظامه ...طوحوا به في سراديب "قصر النهاية" أياماً وليالياً ... مطروحاً في مياهها الآسنة الباردة مقيداً عارياً ... حرموا عليه الأكل والشرب والمنام, لم يبقوا في جسده مكاناً تمتحن فيه بطولة وإرادة الإنسان الشيوعي إلا وسلطوا عليه آلات تعذيبهم الجهنمية. وامتدت أيديهم الآثمة إلى عينيه الجريئتين رغم كل هذا العذاب ... ضغطوهما بالأصابع حتى ينزف منهما الدم وسال منهما ماء الرؤية ... وأخيراً طرحوه أرضاً .. مهشماً .. مشوهاً .. بقية إنسان كبير كان بالأمس مليئاً بالحيوية والحب للخير .. لكل البشرية ... للشعب العراقي .. وسيروا فوقه عجلة حديدية ضخمة (حادلة, ك. حبيب) سحقت جسده النحيف..."5.

نشر كتاب المنحرفون قوائم كثيرة عن أشخاص قتلتهم قوات الحرس القومي أو غيبوا بعد إحالتهم على هيئة التحقيق الخاصة, كما عرضوا لصندوق خشبي صغير استخدم لنقل متتابع لـ 120 جثة قتل أصحابها من قبل لجنة التحقيق الخاصة ودفنت في مناطق مختلفة6, كما عرض الكتاب لمقبرة جماعية دفن فيها الكثير من القتلى حيث جاء تحت صورة المقبرة الجماعية ما يلي: "منطقة الجزيرة ما بين بغداد-الكوت .. وقد دفنت عشرات الجثث في هذه المنطقة الخالية من قبل مكتب التحقيق الخاص التابع إلى الحرس اللاقومي.. أخذت الصورة يوم 15/12/1963"7.

وفي الملحق رقم 1 الذي نشره الدكتور الراحل علي كريم سعيد في كتابه الموسوم "العراق البيرية المسلحة حركة حسن سريع وقطار الموت 1963" والصادر في عام 2002 يؤكد على تنظيم مهرجانات من التعذيب والقتل لعدد كبير من الضباط الأحرار في أعقاب نجاح انقلاب 8 شباط ومن ثم في أعقاب فشل حركة حسن سريع في عام 1963, أولئك الذين ساهموا في ثورة تموز كالزعيم الركن داود الجنابي, والمقدم إبراهيم الموسوي, والعميد عبد المجيد جليل, والعقيد حسين خضر الدوري الذي قلع له طه الشكرجي أذنيه بكلابتين, قبل رميه بالرصاص بأمر من صالح مهدي عماش. كما يذكر بأن طه الشكرجي كان قد قتل تعذيباً في مقر اللواء 19 في معسكر الرشيد النقيب عمر فاروق جلال من حماية عبد الكريم قاسم وآخرين. كما كان "على قائمة الإعدام 34 ضابطاً من أصل حوالي مائة معتقل في مقر اللواء 19, فنادى عليهم (طه الشكرجي, وهو أحد الضباط البعثيين المسؤولين عن التحقيق, ك. حبيب) وأخذهم بسيارة لوري إلى منطقة قريبة من عكركوف, وتم هناك رميهم ودفنهم في نفس المكان, وكان بين القتلى المقدم فاضل البياتي, والرئيس الطيار منعم حسن شنون, والرئيس الأول جلال أحمد فهمي, والنقيب عباس الدجيلي والرئيس هشام إسماعيل صفوت, والنقيب حسون الزهيري وكلهم من الضباط الأحرار, وإبراهيم الحكاك ولطيف الحاج وصاحب أحمد المرزا (طالب بكلية الطب) وصبيح سباهي وغيرهم".8

وفي مكان آخر يشير الدكتور سعيد إلى أن الملازم أيوب وهبي الملقب بابن شيتا قد دخل في عام 1963 إلى نادي الأولمبي الذي كان أحد مقرات التحقيق والتعذيب السيئة الصيت ببغداد "فرأي مجموعة من الضباط يقفون جانباً, فسأل مَن هؤلاء؟ فقالوا هذا الرائد حافظ علوان مرافق عبد الكريم قاسم, وهذا الملازم نوري ناصر أحد مرافقي قاسم, والملازم الطيار طارق محمد صالح أبن أخت عبد الكريم قاسم والملازم الطيار كريم صفر والرئيس غازي شاكر الجبوري, فسحب أيوب وهبي أقسام رشاشته ورماهم جميعاً دون تردد, فلم ينج غير حافظ علوان الذي احتمى بعامود كونكريتي, وغازي الجبوري الذي اكتشفه فيما بعد ناقل الجثث بسيارة الإسعاف إنه ما زال حياً, فأخذه إلى مستشفى الرشيد العسكري حيث أنقذه أطباؤها بأعجوبة"9.

عرف الشعب العراقي في أعقاب ثورة تموز 1959 صحفياً بارزاً ومتميزاً في كتاباته ومقالاته الصحفية حيث كان يكتب باسم "أبو سعيد" في جريدة اتحاد الشعب, وكان أحد الكوادر المتقدمة في الحزب الشيوعي العراقي, إنه الإنسان الطيب عبد الجبار وهبي. اعتقل عبد الجبار وهبي مع رفيقيه جمال الحيدري ومحمد صالح العبلي وتعرض إلى تعذيب شرس يصف جزءاً من عواقب التعذيب عليه بعض البعثيين الذين شاهدوا وهبي في قصر النهاية, إذ كتب الدكتور على كريم سعيد يقول:

"يقول الضابط محمد علي سباهي الذي كان عضواً وأحد مؤسسي المكتب العسكري لحزب البعث العربي الاشتراكي قبل 8 شباط: "في عام 1963 زرت في قصر النهارية عمار علوش وكان مشرفاً على التحقيقات, فرأيت عنده عبد الكريم الشيخلي (وزير الخارجية فيما بعد)وأيوب وهبي وخالد طبرة, وفوجئت بالصحفي عبد الجبار وهبي ممدوداً على الأرض وكان على وشك الموت ويطلب الماء, ويجيبه خالد طبرة (مدير عام فيما بعد): "ها گواد (قواد) تريد مي (ماء)!!", ولم يعطه. وكان الدكتور فؤاد بابان قد أخبرني بمدينة السليمانية عام 2001 قائلاً: كنت معتقلاً في قصر النهاية "فرأيت عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) منشور الرجل من تحت الركبة بآلة نشر خاصة, وكان إلى جانبه شخص آخر لديه يد واحدة معلق منها"10.

يشير طالب شبيب, وكان في قيادة البعث ووزير خارجية حكومة الانقلاب, إلى أن ستة من مدراء البلديات الذين عينهم وزير الشؤون البلدية محمود شيت خطاب وذهبوا لتسلم مناصبهم ووجهوا بالحرس القومي الذي تناولهم بالضرب تأديباً لهم لكي لا يعودوا ثانية إلى مناصبهم, فليس الوزير يعين مدراء البلديات, بل هم الذين يقومون بتعيين مدراء البلديات. جاء وزير الشؤون البلدية بهؤلاء الستة إلى مقر حازم جواد وكان طالب شبيب موجوداً هناك. فسألوه عما جرى لهؤلاء الجرحى "وكأنهم خارجون تواً من غرفة إسعاف وتضميد, يحملون رؤوساً معصوبة وأيدي وأرجلاً وأقدماً مجبَّرة. وكان منظرهم أشبه بتظاهرة أثارت استغرابنا, فقال إنهم رؤساء البلديات الذين وافقتم على تعيينهم, قام رجال الحرس القومي بضربهم تأديباً لهم, وطلبوا منهم أن يعودوا مرة أخرى إلى مراكز عملهم, لأن قيادات الحرس القومي قد اختارت بنفسها رؤساء بلديات آخرين, وهم الآن يمارسون وظائفهم دون الرجوع إلى وزير البلديات"11.

وبصدد أساليب التعذيب التي مارسها البعثيون ضد المعتقلين كتب المحامي خالد عيسى طه في مقال له حول تجربته مع المندائيين أثناء وجوده في المعتقل كتب يقول:

".. أدخلونا ذات ليلة في غرفة .. و في الصباح التالي رأيت منظرا لن أنساه ما حييت إذ رأيت شخصا كهلا ، شيخا مسنا قد وثقت يديه ورجليه بكرسي وكان هناك رجل من الحرس القومي يمسك بيده شمعة ويريد بها حرق لحية الشيخ بينما كان شيخنا يصرخ و يصرخ .
فكرت في داخلي إذ لم أكن أتخيل يوما أن يكون هناك حزبا بكامله يحمل السلاح ويهدد لحية رجل مسن بريء!!!! فبدا لي أن حرسا قوميا يمثل حزب البعث قد ترك كل الأهداف المعادية وركز على لحية الشيخ المندائي" الصابئي" ....
سُحبت إلى الغرفة بعدما عذبوني بقيادة حرس.. ولم أدرك بعدها النتائج ولكن علمت فيما بعد بان هذا الشيخ كان يعود لعائلة تلقب ب(الصگر..).

أيام تلت أيام و سنين تلت سنين و تبدلت الأجواء و حدث انقلاب على انقلاب البعث وجاء عبد السلام عارف .. وكانت كل معرفتي بالمندائية أنهم أناس طيبون جل احترافهم يكمن في الصياغة ..وما كانت صورة الشيخ لتغادر مخيلتي وسألت نفسي: ترى ما الذي فعله ذلك الشيخ وما الذي اقترفه ليعذب هكذا ؟؟؟؟" 12



الهوامش

1 هيئة الدليل الدولي. المنحرفون من الحرس القومي في المد الشعوبي تحت أشعة 18 تشرين الثاني 1963. مصدر سابق. ص 84/85.
2 ملاحظة: من الجدير بالإشارة إلى أن جميع هؤلاء الذين قتلوا على أيدي الحرس القومي وأعضاء لجنة التحقيق الخاصة كانوا قد تعرضوا لأشرس أشكال التعذيب الهمجي الذي يصعب تصوره ثم قتلوا بأبشع صور القتل بما في ذلك قطع الأصابع والأيدي وأعضاء من الجسم, في ما عدا أولئك الذين قتلوا على عتبة بيوتهم أو الذين قتلوا في دورهم مباشرة وحال اعتقالهم. ك. حبيب. ويمكن التدليل على ذلك من أكثر من مصدر في هذا الصدد, ولكن بشكل خاص ما كتبه الدكتور علي سعيد كريم في كتابه عن طالب شبيب نقلاً عما ذكره الدكتور تحسين معلة, وهو من البعثيين البارزين وكان يحتل موقعاً مهماً في حزب البعث الحاكم, حيث قال ما يلي:
"بعد اعتقال قيادة الحزب الشيوعي بأربعة أيام طلب مني حمدي عبد المجيد الحضور إلى "قصر النهاية" لعيادة بعض المرضى. ذهبت إلى هناك وبدأت من السرداب فرأيت سلام عادل نائماً وسط القاعة طاوياً نفسه على الأرض مشدود العينين مدًّمى. وعبد الرحيم شريف العاني بنفس الحالة وكذلك حسن عوينة وعبد القادر إسماعيل البستاني وحمدي أيوب العاني وآخرين لم أتعرف عليهم وكانوا بحالة مزرية ينامون مباشرة على أرضية السرداب الرطبة. حاولت تضميد جراحهم وانتقلت لردهات أخرى وكتبت لهم الأدوية المطلوبة وكنت أعودهم يومياً لمدة أسبوع. وتعاملت معهم كما يتعامل طبيب مع ردهة اعتيادية للمرضى حتى جيء في أحد الأيام بهاشم جواد (وزير خارجية قاسم) وأعطوه وجبة عشاء "خبز وتمر" فسألته : هل تشكو من شيء؟ فأجاب مذهولاً "شنو يعني؟" فقال له أحد الحراس القوميين: هذا د. تحسين معلة, فوقف مرتجفاً" نعم نعم!! قلت أنا طبيب وأستطيع أن أخدمكم...". ويبدو أن الدكتور تحسين معلة كان يقصد بأن الدكتور هاشم جواد كان قد فقد جزءاً من قدرته على التفكير بسبب التعذيب الذي تعرض له أيضاً مع الآخرين وسوء المعاملة اليومية وسوء التغذية. ك. حبيب.
3 سعيد, علي كريم د. عراق 8 شباط 1963, من حوار المفاهيم إلى حوار الدم. مراجعات في ذاكرة طالب شبيب. طبعة أولى. دار الكنوز الأدبية. بيروت. 1999. ص 200.
5 دكله, صالح مهدي. من الذاكرة. "سيرة حياة". دار المدى للثقافة والنشر. دمشق. ط 1. 2000. ص 97/98.
5 الغد. مجلة كانت تصدرها لجنة الدفاع عن الشعب العراقي, ومقرها مدينة براغ في جيكوسلوفاكيا. العدد 2/ 1964.
راجع أيضاً: خيري, زكي وسعاد. دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق