الخميس، 25 فبراير 2010

عندما ينسى وزير الثقافة أنه “وزير”

أصبح السيد بنسالم حميش الأديب المبدع و رجل الفلسفة وزيرا للثقافة، و بين الكتابة و الإبداع و كرسي الوزارة برزخ لا يقطعه إلا العارفون، و لا يهمنا مطلقا كيف قام الرجل باجتياز المسافة الصعبة، فلكل رهاناته و طموحاته المشروعة، لكن ما يشغلنا بالتأكيد هو كيف يتحول المثقف من حرية الإبداع الشخصي في الفكر و الأدب، إلى مسؤولية المنصب العمومي، و هو ما لا يبدو أن السيد الوزير قد هضمه بعد، فما زال يبدو في ظاهر كلامه و في بعض قراراته و اختياراته ضحية ميوله و أذواقه و مزاجياته الشخصية، حتى أنه ينسى في بعض الأحيان بأنه يشغل منصبا حكوميا في دولة ذات اختيارات و التزامات و سياسات مرسومة قبل مجيء الوزير، و أنه يتحدث لا أمام بعض أهل الإختصاص في الأدب العربي، بل أمام شعب يؤدي ضرائبه للدولة و ينتظر خدماتها.

هكذا نسي الوزير و هو بمعرض الحديث عن الأمازيغية في التلفزيون بأن للدولة التزامات تخص هذا الموضوع، و قرارات صدرت في غفلة من السيد حميش الذي لم يكن وزيرا آنذاك، و لكنه كان أستاذا جامعيا و مثقفا له حق التعبير عن رأيه كما يشاء في موضوع ما فتئ يقضّ مضجعه و يزعجه بلا هوادة، موضوع التنوع الثقافي و اللغوي الذي لا يحب الخوض فيه بدون انفعال، و بدون أن يعمد إلى ترسانة العبارات النمطية التي تحذر من الفتنة في حالة الإعتراف بما هو موجود، إنها الروح المخلصة للجاكوبينيزم الذي رضعه السيد حميش من ثديين: ثدي فرنسا التي أصدر كتبه بلغتها و علّم أبناءه في مدارسها، و ثدي “الحركة الوطنية” الذي تناول منه جرعات زائدة من لبن “العروبة و الإسلام”، ذاك الذي يصيب راضعيه بعور مزمن فلا يرون إلا بعين واحدة في اتجاه الشرق، في الوقت الذي تعمى فيه عن رؤية ما هو ماثل أمامها بالمغرب.

لهذه الأسباب لم نفاجأ عندما سمعنا وزير الثقافة المغربي يهنئ المغاربة و يبشرهم بعودة أحد النوادي الشعرية إلى العمل … لكن في أرض الكنانة مصر المحروسة، و لم نعجب من ترداده أمام الناس عند توزيع جوائز الأولمبياد للأناشيد التي كان يحفظها منذ صباه، كما لم نستغرب لحماسه في الدعوة إلى حفظ الشعر الجاهلي، الشعر الذي يبعد عنا بخمسة عشر قرنا من الزمن، و بستة آلاف كيلومتر من الفيافي و الصحاري و الجبال، و هو يعتقد أن ذلك ما سينقذ النظام التربوي المغربي الذي يعاني من تدنّ كبير في تعلّم اللغات، و خاصة لغة الضاد، و كأنه لا يعلم بأنّ معضلة النظام التربوي المغربي هي من العمق و البنيوية بحيث لا يحلها حفظ الشعر الجاهلي و لا استظهار المقامات.

موقف السيد حميش من الحرف الأمازيغي الأصلي تيفيناغ، الذي عبر عنه في التلفزيون باضطراب و ارتباك ظاهرين، و الذي هو الحرف الرسمي لكتابة اللغة الأمازيغية في التعليم العمومي منذ 10 فبراير 2003 بقرار من السلطة العليا، بعد طلب رأي المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية و الإتصال بمختلف الأحزاب السياسية بالبلاد، هو موقف أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه لرجل يضع الحزازات الشخصية فوق المصلحة الوطنية، و المصلحة الوطنية تقتضي فض النزاع و ليس تغذيته من جديد، و قد كان هناك صراع حول حرف كتابة الأمازيغية منذ شتنبر 2002، اندلع بين الحركة الأمازيغية التي دعت في معظمها إلى تبني الحرف اللاتيني الذي اعتبرته “كونيا”، و بين الحركات الإسلامية و القومية العربية التي اعتبرت الحرف العربي هو الخيار الأفضل سياسيا، و انتهى الصراع بعد عدة أشهر إلى إقرار حرف ثالث هو الحرف الأمازيغي الأصلي تيفيناغ الذي لم يكن موضع نزاع، و الذي انتقل دفعة واحدة من حرف محظور من طرف السلطة تعتقل من استعمله في الفضاء العمومي، إلى أحد مرتكزات تعليم الأمازيغية و مكاسبها الكبرى. و طبعا نعلم أن الذين دعوا إلى الحرف العربي و استعملوا كل الوسائل لفرضه على الأمازيغية لم يرضوا بهذه النتيجة، و إن كانت الحركة الأمازيغية قد تنازلت عن مطلبها الذي هو الحرف اللاتيني الكوني، و نعلم أن عددا من هؤلاء ظل يحاول في كل مرة التشكيك في مكسب الحرف الأمازيغي و يضعه موضع سؤال خاصة بعد أن ظهر الطابع الهوياتي القوي لهذا الحرف في الفضاء العمومي، على واجهات المحلات و الشركات و المؤسسات و حتى الأحزاب السياسية، و منطق هؤلاء أنهم يعتبرون أنفسهم على حق، و أن غيرهم مخطئ، و يشعرون ببعض الإهانة التي لحقت بهم بعد أن تمّ إقرار شيء آخر غير حرف “العروبة و الإسلام”، الشعار القديم “للحركة الوطنية” منذ 1930، و الذي كان يتم في إطاره مخطط محو الهوية الأمازيغية العريقة للمغرب، و إحلال هوية اختزالية و مصطنعة محلها، بشكل جعل الإنتماء إلى الأمازيغية يبدو مؤامرة و فتنة، و الإنتماء إلى العروبة شرفا و عزّة. و منشأ الشعور بالإهانة عند هؤلاء و عدم الرّضى، هو تعوّدهم على أن تتم الأمور كما يشتهون، و اعتيادهم على ألا تعامل الأمازيغية إلا بكل احتقار و استهانة على أرضها و في موطنها الأصلي باسم “الوطنية”، وطنية “اللطيف” الناشئة مع بداية الثلاثينات بعد 18 سنة من الإحتلال الأجنبي، و على أن تحتكم الدولة المركزية اليعقوبية إلى غلبتها و قوتها لإضفاء تجانس مطلق على ما ظلّ طوال آلاف السنين فسيفساء حضارية جميلة.

اعتبر وزير الثقافة بأن قرار حرف تيفيناغ لم يحسم بالنسبة للكل بل عند البعض فقط (كذا!)، و هو بذلك ينتصر للعبث على العقل، و للمزاج على الحكمة، و لمنطق الردّة و الصراع على منطق التوافق و الحوار و البناء، كما يتنكر لقرار الدولة التي يحتل منصبا بحكومتها، دون أي اعتبار للتراكمات و المكاسب. و حتى يفهم الوزير ما نرمي إليه، نسايره في منطقه في جميع القضايا الأخرى، فنتصور مواطنين مغاربة من الإسلاميين يقولون إن التعديلات التي طالت مدونة الأسرة لا تعنيهم و ليست محسومة بالنسبة لهم بل عند البعض فقط، و أن يقول بعض جلادي الأمس إن الإنصاف و المصالحة لم يتما إلا بالنسبة للبعض و أنهم لا يعترفون بأن المعتقلين قد ظلموا، و أن يقول دعاة المركزية و التمركز بأن “الجهوية الموسعة” خطر على الوحدة و أنهم لا يؤمنون بأهميتها و لا بضرورتها، و أن يعود آخرون إلى القول إنّ الصحراء مغربية و انتهى الأمر و لا حاجة بنا إلى اقتراح “حكم ذاتي” أو ما شابه ذلك، و ينبغي إرغام الصحراويين على الخضوع للسيادة المغربية بقوة الدولة و غلبتها العسكرية، لنتصور لو كان الجميع مثل وزير الثقافة، لا يعترفون بأية خطوة إلى الأمام، فماذا كان سيكون مصير المغرب ؟.

لكي يعود الوزير إلى صوابه باعتباره وزيرا، و يعي رهانات منصبه الذي يشغله، و الذي لم يعيّن فيه لكي يمارس على الشعب المغربي مزاجيات الأديب العربي الشرقاني، و لكي يكون وزيرا مغربيا بحق، متشبعا بروح الثقافة المغربية الأصيلة بكل مكوناتها الغنية و المتنوعة، و قريبا من هموم المبدعين بمختلف لغاتهم و مشاربهم الثقافية و الجمالية، و يكف عن المس بمشاعرهم و بكرامتهم بسبب إيديولوجيا سياسية مهترئة و متهافتة، و لكي يدرك بأنّ الرهان الثقافي الأقوى بالنسبة للمغرب هو حلّ معادلة الخصوصي ـ بالمعنى الوطني ـ و الكوني، و ليس الإبقاء على ثقافة التلمذة الكسولة على الشرق، و الاقتيات على فتات موائده و إبداعاته المحدودة، عليه أن يتحلى بحس سياسي يستوعب من خلاله مكاسب العقد الأخير، و أن يغادر سنوات السبعينات و الثمانينات بمساوئها التي يطبعها الإقصاء، و أن يدرك بأن العودة إلى الوراء أمر مستحيل، إلا إذا عاد منطق الصراع و سنوات الرصاص بديلا لمنطق المصالحة و الحوار و التعاقد السلمي.

إن الأمازيغية لا يمكن أن يفتي فيها من لا يحترمها، و ينزعج و يتشنج من مجرد سماعها، كما لا ينبغي وضع العربية بين يدي من لا يحترمها كذلك، و المرجع للعقل المتوازن و للروح الوطنية المنفتحة.

المرسل: أحمد عصيد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق